للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ.

[٢٣] {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} [الأنعام: ٢٣] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ (يَكُنْ) بِالْيَاءِ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ بِمَعْنَى الِافْتِتَانِ، فَجَازَ تَذْكِيرُهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ الْفِتْنَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ (فِتْنَتُهُمْ) بِالرَّفْعِ جَعَلُوهُ اسْمَ كَانَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ، فَجَعَلُوا الِاسْمَ قَوْلَهُ: (أَنْ قَالُوا) ، وَفِتْنَتُهُمُ الْخَبَرُ، ومعنى فِتْنَتُهُمْ أَيْ: قَوْلُهُمْ وَجَوَابُهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مَعْذِرَتُهُمْ وَالْفِتْنَةُ التَّجْرِبَةُ، فَلَمَّا كَانَ سُؤَالُهُمْ تَجْرِبَةً لِإِظْهَارِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ قِيلَ له: فتنة، وقال الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} [الأنعام: ٢٣] مَعْنًى لَطِيفٌ وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّجُلِ يَفْتَتِنُ بِمَحْبُوبٍ ثُمَّ يُصِيبُهُ فِيهِ مِحْنَةٌ فَيَتَبَرَّأُ مِنْ مَحْبُوبِهِ، فَيُقَالُ: لم تكن فتنتي إِلَّا هَذَا، كَذَلِكَ الْكُفَّارُ فُتِنُوا بِمَحَبَّةِ الْأَصْنَامِ وَلَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ تَبَرَّأُوا مِنْهَا، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} [الأنعام: ٢٣] في محبتهم للأصنام، {إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: ٢٣] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (رَبَّنَا) بِالنَّصْبِ عَلَى نِدَاءِ الْمُضَافِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْخَفْضِ عَلَى نَعْتِ وَاللَّهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْفِرَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَجَاوُزَهُ عَنْ أهل التوحيد، قالوا لبعضهم البعض: تَعَالَوْا نَكْتُمُ الشِّرْكَ لَعَلَّنَا نَنْجُوا مَعَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ رَبَّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَيَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ بِالْكُفْرِ.

[٢٤] ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الْأَنْعَامِ: ٢٤] بِاعْتِذَارِهِمْ بِالْبَاطِلِ وَتَبَرِّيهِمْ عَنِ الشِّرْكِ، {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: ٢٤] أي: زَالَ وَذَهَبَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْجُونَ شَفَاعَتَهَا وَنُصْرَتَهَا، فَبَطُلَ كله في ذلك اليوم.

[٢٥] ، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: ٢٥] وَإِلَى كَلَامِكَ {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام: ٢٥] أَغْطِيَةً، جَمْعُ كِنَانٍ، كَالْأَعِنَّةِ جَمْعُ عنان، {أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الأنعام: ٢٥] أَنْ يَعْلَمُوهُ، قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْ لَا يَفْقَهُوهُ، وَقِيلَ: كَرَاهَةَ أَنْ يفقهوه، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام: ٢٥] صمما وثقلا، وهذا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَلِّبُ الْقُلُوبَ فَيَشْرَحُ بَعْضَهَا لِلْهُدَى، وَيَجْعَلُ بَعْضَهَا فِي أَكِنَّةٍ فَلَا تَفْقَهُ كَلَامَ اللَّهِ وَلَا تُؤْمِنُ، {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ} [الأنعام: ٢٥] مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالدِّلَالَاتِ، {لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام: ٢٥] يَعْنِي أَحَادِيثَهُمْ وَأَقَاصِيصَهُمْ، وَالْأَسَاطِيرُ جَمْعُ: أسطورة، وإسطارة، وقيل: الأساطير هِيَ التُّرَّهَاتُ وَالْأَبَاطِيلُ، وَأَصْلُهَا مِنْ سَطَرْتُ، أَيْ: كَتَبْتُ.

[٢٦] ، {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: ٢٦] أَيْ: يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: ٢٦] أَيْ: يَتَبَاعَدُونَ عَنْهُ بِأَنْفُسِهِمْ، نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ مَكَّةَ، قَالَهُ مُحَمَّدُ ابن الْحَنَفِيَّةِ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَنْهَوْنَ عَنِ الْقُرْآنِ وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَبَاعَدُونَ عَنْهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَنْهَى النَّاسَ عَنْ أَذَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَمْنَعُهُمْ وَيَنْأَى عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، أَيْ: يبعد {وَإِنْ يُهْلِكُونَ} [الأنعام: ٢٦] أَيْ: مَا يُهْلِكُونَ، {إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [الأنعام: ٢٦] أَيْ: لَا يَرْجِعُ وَبَالُ فِعْلِهِمْ إِلَّا إِلَيْهِمْ، وَأَوْزَارُ الَّذِينَ يَصُدُّونَهُمْ عليهم، {وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: ٢٦]

[٢٧] ، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام: ٢٧] يَعْنِي: فِي النَّارِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [الْبَقَرَةِ: ١٠٢] أَيْ: فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وَقِيلَ: عُرِضُوا عَلَى النَّارِ، وَجَوَابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ مَعْنَاهُ: لَوْ تَرَاهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَرَأَيْتَ عَجَبًا، {فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} [الأنعام: ٢٧] يَعْنِي: إِلَى الدُّنْيَا: {وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: ٢٧] قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ كُلُّهَا بِالرَّفْعِ عَلَى معنى. يا ليتنا نرد نحن ولا نَكُذِّبُ وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ {وَلَا نُكَذِّبَ} [الأنعام: ٢٧] بِنَصْبِ الْبَاءِ وَالنُّونِ عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي، أَيْ: لَيْتَ رَدَّنَا وَقَعَ، وَأَنْ لَا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ، وَالْعَرَبُ تَنْصِبُ جَوَابَ التَّمَنِّي بِالْوَاوِ كَمَا تَنْصِبُّ بِالْفَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ

<<  <  ج: ص:  >  >>