للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ يُرْزَقُ، وَيُدْفَعُ عَنْهُ بِالْمُؤْمِنِينَ لِسِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَيَعِيشُ فِيهَا فَإِذَا صَارَ إِلَى الْآخِرَةِ وَجَبَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً كَالْمُسْتَضِيءِ بِنَارِ غَيْرِهِ إِذَا ذَهَبَ صَاحِبُ السِّرَاجِ بِسِرَاجِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: ١٥٦] قَالَ إِبْلِيسُ: أَنَا مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: ١٥٦] فَتَمَنَّاهَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَقَالُوا: نَحْنُ نتقي ونؤتي الزكاة، ونؤمن، فَجَعَلَهَا اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَقَالَ:

[١٥٧] {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: ١٥٧] وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُوَ نَبِيُّكُمْ كَانَ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ، وَلَا يَقْرَأُ، وَلَا يَحْسِبُ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ، وَلَا نَحْسِبُ» (١) وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمِّ أَيْ: هُوَ عَلَى مَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أُمَّتِهِ، أَصْلُهُ أُمَّتِي فَسَقَطَتِ التَّاءُ فِي النِّسْبَةِ كَمَا سَقَطَتْ فِي الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أُمِّ الْقُرَى وَهِيَ مَكَّةُ. {الَّذِي يَجِدُونَهُ} [الأعراف: ١٥٧] أَيْ: يَجِدُونَ صِفَتَهُ وَنَعْتَهُ وَنُبُوَّتَهُ، {مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: ١٥٧] عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: «لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ: قَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلُ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وقلوبا غلفا» (٢) وعن كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «إِنِّي أُجِدُ فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لَا فَظٌّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، أُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ، وَيُكَبِّرُونَهُ عَلَى كُلِّ نَجْدٍ، يَأْتَزِرُونَ على أنصافهم، ويوضؤون أَطْرَافَهُمْ، صَفُّهُمْ فِي الصَّلَاةِ وَصَفُّهُمْ فِي الْقِتَالِ سَوَاءٌ، مُنَادِيهِمْ يُنَادِي فِي جَوِّ السَّمَاءِ، لَهُمْ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَمُهَاجَرُهُ بِطَابَةَ وَمُلْكُهُ بِالشَّامِ» (٣) . قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [الأعراف: ١٥٧] أَيْ: بِالْإِيمَانِ، {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: ١٥٧] أَيْ: عَنِ الشِّرْكِ وَقِيلَ. الْمَعْرُوفُ الشَّرِيعَةُ وَالسُّنَّةُ، وَالْمُنْكَرُ مَا لَا يُعْرَفُ فِي شَرِيعَةٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ: بِخَلْعِ الْأَنْدَادِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ: عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَقَطْعِ الْأَرْحَامِ، {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: ١٥٧] يَعْنِي: مَا كَانُوا يُحَرِّمُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ والحام، {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: ١٥٧] يَعْنِي: الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَالزِّنَا وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: ١٥٧] قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (آصَارَهُمْ) بِالْجَمْعِ، وَالْإِصْرُ: كُلُّ مَا يَثْقُلُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْعَهْدَ الثَّقِيلَ كَانَ أُخِذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْعَمَلِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي التَّشْدِيدَ الَّذِي كَانَ عليهم في الدين، {وَالْأَغْلَالَ} [الأعراف: ١٥٧] يَعْنِي الْأَثْقَالَ {الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: ١٥٧] وَذَلِكَ مِثْلَ قَتْلِ الْأَنْفُسِ فِي التَّوْبَةِ، وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ الْخَاطِئَةِ، وَقَرْضِ النَّجَاسَةِ عَنِ الثَّوْبِ بِالْمِقْرَاضِ، وَتَعْيِينِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ، وَتَحْرِيمِ أَخْذِ الدِّيَةِ، وَتَرَكِ الْعَمَلِ فِي السَّبْتِ، وَأَنَّ صَلَاتَهُمْ لَا تَجُوزُ إِلَّا


(١) رواه البخاري في الصوم ٤ / ١٢٦، ومسلم في كتاب الصيام رقم (١٠٨٠) ٢ / ٧٦١ والمصنف في شرح السنة ٦ / ٢٢٨.
(٢) أخرجه البخاري في البيوع ٤ / ٣٤٢ وفي تفسير سورة الفتح ٨ / ٥٨٥.
(٣) أخرجه الدارمي في المقدمة ١ / ٥ وابن سعد في الطبقات ١ / ٣٦٠ والبغوي في المصابيح ٤ / ٣٦ وانظر مشكاه المصابيح ٣ / ١٦٠٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>