للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} [الإسراء: ٢٣] قرأ حمزة والكسائي بِالْأَلِفِ عَلَى التَّثْنِيَةِ فَعَلَى هَذَا قوله: {أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} [الإسراء: ٢٣] كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [الْمَائِدَةِ: ٧١] وَقَوْلِهِ: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الْأَنْبِيَاءِ: ٣] وَقَوْلُهُ: (الَّذِينَ ظَلَمُوا) ابْتِدَاءٌ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ (يَبْلُغَنَّ) عَلَى التَّوْحِيدِ، {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: ٢٣] كَلِمَةُ كَرَاهِيَةٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَصْلُ الْتُّفِّ وَالْأُفِّ الْوَسَخُ عَلَى الْأَصَابِعِ إِذَا فَتَلْتَهَا. وَقِيلَ: الْأُفُّ مَا يَكُونُ فِي الْمَغَابِنِ مِنَ الوسخ، والتف مَا يَكُونُ فِي الْأَصَابِعِ. وَقِيلَ: الأف وسخ الأنف والتف وسخ الأظفار. وقيل. الأف وسخ الظفر والتف مَا رَفَعْتَهُ بِيَدِكَ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ حَقِيرٍ، {وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: ٢٣] وَلَا تَزْجُرْهُمَا، {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: ٢٣] حَسَنًا جَمِيلًا لَيِّنًا قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: كَقَوْلِ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ لِلسَّيِّدِ الْفَظِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُسَمِّيهِمَا ولا تكنيهما وقل لهما يَا أَبَتَاهُ يَا أُمَّاهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا إِذَا بَلَغَا عِنْدَكَ مِنَ الْكِبَرِ مَا يَبُولَانِ فَلَا تَتَقَذَّرْهُمَا وَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ حِينَ تُمِيطُ عَنْهُمَا الْخَلَاءَ وَالْبَوْلَ كَمَا كَانَا يُمِيطَانِهِ عَنْكَ صَغِيرًا.

[٢٤] {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الإسراء: ٢٤] أَيْ: أَلِنْ جَانِبَكَ لَهُمَا وَاخْضَعْ لهما. قال عروة بن الزبير: ألن لَهُمَا حَتَّى لَا تَمْتَنِعَ عَنْ شيء أحباه {مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: ٢٤] مِنَ الشَّفَقَةِ، {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: ٢٤] أَرَادَ إِذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: ١١٣] عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدِ وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سخط الوالد» (١) . وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ وَلَا عَاقٌّ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ» (٢) .

[٢٥] {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [الإسراء: ٢٥] مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَعُقُوقِهِمَا، {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} [الإسراء: ٢٥] أَبْرَارًا مُطِيعِينَ بَعْدَ تَقْصِيرٍ كَانَ مِنْكُمْ فِي الْقِيَامِ بِمَا لَزِمَكُمْ مِنْ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ} [الإسراء: ٢٥] بعد المعصية {غَفُورًا} [الإِسْرَاءِ: ٢٥] قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ مِنْهُ الْبَادِرَةُ إِلَى أَبَوَيْهِ لا يريد به إِلَّا الْخَيْرَ فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْأَوَّابُ الَّذِي يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ ثُمَّ يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الرَّجَّاعُ إِلَى الْخَيْرِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ الرَّجَّاعُ إِلَى اللَّهِ فِيمَا يحزنه وَيَنُوبُهُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُمُ الْمُسَبِّحُونَ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سَبَأٍ: ١٠] قَالَ قَتَادَةُ: هم المصلون، قال عون الْعَقِيلِيُّ: هُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الضحى.

[٢٦] قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: ٢٦] يَعْنِي صِلَةَ الرَّحِمِ، وَأَرَادَ بِهِ قرابة الإنسان وعليه الأكثرون وعن عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: أَرَادَ بِهِ قَرَابَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: ٢٦] أَيْ: لَا تُنْفِقْ مَالَكَ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ أَنْفَقَ الإنسان ماله كله كَانَ تَبْذِيرًا وَلَوْ أَنْفَقَ مُدًّا فِي بَاطِلٍ كَانَ تَبْذِيرًا. وَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ التَّبْذِيرِ فَقَالَ: إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ.

[٢٧] {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: ٢٧] أي: أولياءهم، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مُلَازِمِ سُنَّةَ قَوْمٍ هُوَ أَخُوهُمْ. {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: ٢٧] جَحُودًا لِنِعَمِهِ.

[٢٨] {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} [الإسراء: ٢٨] نَزَلَتْ فِي مَهْجَعٍ وَبِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَسَالِمٍ وَخَبَّابٍ كَانُوا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ


(١) أخرجه الترمذي في البر ٦ / ٢٥ مرفوعا وموقوفا وقال في الموقوف: أصح، وأخرجه ابن حبان برقم (٢٠٢٦) ص (٤٩٦) من موارد الظمآن وصححه الحاكم ٤ / ١٥٢ والمصنف في شرح السنة ١٣ / ١٢.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٣ / ٢٨ و ٤٤، والمصنف في شرح السنة ١٣ / ١٧ وفيه يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف وللحديث شواهد كثيرا وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ٢ / ٢٨٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>