للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَلِكَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا بَالَغُوا فِي كِتْمَانِ الشَّيْءِ يَقُولُونَ: كَتَمْتُ سِرَّكَ مِنْ نَفْسِي أَيْ أخفيته غاية الإخفاء والله تعالى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَالَ: أَكَادُ أَيْ أُرِيدُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أُرِيدُ أُخْفِيهَا، وَالْمَعْنَى فِي إِخْفَائِهَا التَّهْوِيلُ وَالتَّخْوِيفُ لِأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ كَانُوا عَلَى حَذَرٍ مِنْهَا كُلَّ وَقْتٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِفَتْحِ الْأَلِفِ أَيْ أُظْهِرُهَا، يُقَالُ: خَفِيتُ الشَّيْءَ إِذَا أَظْهَرْتَهُ وَأَخْفَيْتُهُ إذا سترته، وقوله تَعَالَى: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: ١٥] أي تَعْمَلُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.

[١٦] {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} [طه: ١٦] فَلَا يَصْرِفَنَّكَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ، {مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [طه: ١٦] مُرَادُهُ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ {فَتَرْدَى} [طه: ١٦] أَيْ فَتَهْلَكَ.

[١٧] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: ١٧] سُؤَالُ تَقْرِيرٍ وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا السُّؤَالِ تَنْبِيهُهُ وَتَوْقِيفُهُ عَلَى أَنَّهَا عَصًا حَتَّى إِذَا قَلَبَهَا حَيَّةً عَلِمَ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهَذَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: هَلْ تَعْرِفُ هَذَا؟ وَهُوَ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ يَعْرِفُهُ، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْضَمَّ إِقْرَارُهُ بِلِسَانِهِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِقَلْبِهِ.

[١٨] {قَالَ هِيَ عَصَايَ} [طه: ١٨] قِيلَ: وَكَانَتْ لَهَا شُعْبَتَانِ وَفِي أسفلها سنان ولها محجن {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: ١٨] أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا إِذَا مَشَيْتُ وَإِذَا عييت وَعِنْدَ الْوَثْبَةِ، {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه: ١٨] أَضْرِبُ بِهَا الشَّجَرَةَ الْيَابِسَةَ لِيَسْقُطَ وَرَقُهَا فَتَرْعَاهُ الْغَنَمُ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ (وَأَهُسُّ) بِالسِّينِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ أزجر بها الغنم، والهس زَجْرُ الْغَنَمِ، {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: ١٨] حَاجَاتٌ وَمَنَافِعُ أُخْرَى، جَمْعُ مَأْرَبَةٍ بفتح الراء، ولم يقل (أخر) لرؤوس الْآيِ، وَأَرَادَ بِالْمَآرِبِ مَا يُسْتَعْمَلُ فيه العصا في السفر، فكان يَحْمِلُ بِهَا الزَّادَ وَيَشُدُّ بِهَا الْحَبْلَ فَيَسْتَقِي الْمَاءَ مِنَ الْبِئْرِ، وَيَقْتُلُ بِهَا الْحَيَّاتِ وَيُحَارِبُ بِهَا السِّبَاعَ، وَيَسْتَظِلُّ بِهَا إِذَا قَعَدَ وغير ذلك.

[١٩] {قَالَ} [طه: ١٩] اللَّهُ تَعَالَى، {أَلْقِهَا يَا مُوسَى} [طه: ١٩] انْبِذْهَا، قَالَ وَهْبٌ: ظَنَّ مُوسَى أنه يقول ارفضها.

[٢٠] {فَأَلْقَاهَا} [طه: ٢٠] عَلَى وَجْهِ الرَّفْضِ ثُمَّ حَانَتْ مِنْهُ نَظْرَةٌ، {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ} [طه: ٢٠] صَفْرَاءُ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ من الحيات، {تَسْعَى} [طه: ٢٠] تَمْشِي بِسُرْعَةٍ عَلَى بَطْنِهَا وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} [النَّمْلِ: ١٠] وَهِيَ الْحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ الْخَفِيفَةُ الْجِسْمِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: {ثُعْبَانٌ} [الأعراف: ١٠٧] وَهُوَ أَكْبَرُ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَّاتِ، فَأَمَّا الْحَيَّةُ فَإِنَّهَا تَجْمَعُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَقِيلَ: الْجَآنُّ عِبَارَةٌ عَنِ ابْتِدَاءِ حَالِهَا فَإِنَّهَا كَانَتْ حَيَّةً عَلَى قَدْرِ الْعَصَا ثُمَّ كَانَتْ تَتَوَرَّمُ وَتَنْتَفِخُ حتى صارت ثعبان، وَالثُّعْبَانُ عِبَارَةٌ عَنِ انْتِهَاءِ حَالِهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ فِي عِظَمِ الثُّعْبَانِ وَسُرْعَةِ الْجَانِّ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: نَظَرَ مُوسَى فَإِذَا الْعَصَا حَيَّةٌ مِنْ أَعْظَمِ مَا يكون من الحيات فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>