للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فانحازوا مؤمنهم وكافرهم إلى الشعب، إلا أبا لهب، فإنه ظاهر قريشا عليهم، وذلك سنة سبع من البعثة، وبقوا محبوسين مضيقا عليهم جدا نَحْوَ ثَلَاثِ سِنِينَ، حَتَّى بَلَغَهُمُ الْجَهْدُ، وَسُمِعَ أَصْوَاتُ صِبْيَانِهِمْ بِالْبُكَاءِ مِنْ وَرَاءِ الشِّعْبِ. وَهُنَاكَ عمل أبو طالب قصيدته اللامية، وقريش بين راض وكاره، فسعى في نقضها بعض من كان كارها لها، وأطلع الله رسوله على أمر صحيفتهم، وأنه سلط عليها الأرضة، فأكلت ما فيها من قطيعة وَظُلْمٍ إِلَّا ذِكْرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَخْبَرَ بذلك عمه، فخرج إلى قريش وأخبرهم، وقال: إن كَانَ كَاذِبًا خَلَّيْنَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، وَإِنْ كَانَ صادقا رجعتم. قالوا: أنصفت. فأنزلوها، فلما رأوا الأمر كذلك، ازْدَادُوا كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الشعب، وَمَاتَ أبو طالب بَعْدَ ذَلِكَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَمَاتَتْ خديجة بَعْدَهُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذلك، فَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم من سفهاء قومه، فخرج إلى الطائف رجاء أن ينصروه عليهم، ودعا إلى الله، فَلَمْ يَرَ مَنْ يُؤْوِي، وَلَمْ يَرَ نَاصِرًا، وآذوه أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينل منه قومه، ومعه زيد بن حارثة، فَأَقَامَ بَيْنَهُمْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لَا يَدَعُ أَحَدًا من أشرافهم إلا كلمه، فَقَالُوا: اخْرُجْ مِنْ بَلَدِنَا. وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ، فَوَقَفُوا لَهُ سِمَاطَيْنِ، وَجَعَلُوا يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى دميت قدماه، وزيد يَقِيهِ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَصَابَهُ شِجَاجٌ فِي رَأْسِهِ، فانصرف إِلَى مَكَّةَ مَحْزُونًا. وَفِي مَرْجِعِهِ ذَلِكَ دَعَا بالدعاء الْمَشْهُورِ: «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حيلتي، وهواني على الناس» . فَأَرْسَلَ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَيْهِ مَلَكَ الْجِبَالِ يَسْتَأْمِرُهُ أَنْ يُطْبِقَ الْأَخْشَبَيْنِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وهما جبلاها اللذان هي بينهما، فقال: بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ؛ لَعَلَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا. فلما نزل بنخلة في مرجعه، قام يصلي من الليل، فصرف الله إليه نفرا مِنَ الْجِنِّ، فَاسْتَمَعُوا قِرَاءَتَهُ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الْأَحْقَافِ: ٢٩] (١) . وَأَقَامَ بِنَخْلَةَ أَيَّامًا، فَقَالَ لَهُ زَيْدُ: كَيْفَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَخْرَجُوكَ؟ يَعْنِي قُرَيْشًا. قال: يَا زيد، إِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ، وَمُظْهِرٌ نبيه. فلما انتهى إلى مكة، أرسل رجلا من


(١) سورة الأحقاف، الآية: ٢٩.

<<  <   >  >>