للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فلما أصبح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْمِهِ أَخْبَرَهُمْ، فاشتد تكذيبهم له، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَصِفَ لَهُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَجَلَّاهُ الله حتى عاينه، وطفق يخبرهم عنه، ولا يستطيعون أن يردوا عليه، وأخبرهم عن عيرهم، في مسراه ورجوعه، وعن وقت قدومها، وعن البعير الذي يقدمها، فكان الْأَمْرُ كَمَا قَالَ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا نفورا. ونقل ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عائشة ومعاوية أَنَّهُمَا قَالَا: إنما كان الإسراء بروحه، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ: كَانَ الْإِسْرَاءُ مَنَامًا، وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ: كَانَ بِرُوحِهِ دُونَ جَسَدِهِ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ عَظِيمٌ؛ فَإِنَّ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ قَدْ يَكُونُ أَمْثَالًا مَضْرُوبَةً لِلْمَعْلُومِ فِي الصُّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ، فَيَرَى كَأَنَّهُ قَدْ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، أَوْ ذُهِبَ به إلى مكة، وروحه لم تصعد، ولم يذهب، وَإِنَّمَا مَلَكُ الرُّؤْيَا ضَرَبَ لَهُ الْمِثَالَ، وَالَّذِينَ قالوا: بروحه، لم يريدوا أنه كان مناما، وإنما أرادوا أن الروح عرج بها حقيقة، وباشرت منه جنس ما تباشر بعد المفارقة، لَكِنْ لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ حَتَّى يشق بطنه وهو حي لا يتألم، عرج بذات روحه حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ إِمَاتَةٍ، وَمَنْ سِوَاهُ لَا تنال روحه ذلك إلا بعد الموت، فإن الأنبياء إنما استقرت أرواحهم في الرفيق الأعلى مع روحه، ومع هذا فلها إشراف على البدن بِحَيْثُ يَرُدُّ السَّلَامَ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ، وبهذا التعلق رأى موسى يصلي في قبره، ورآه في السماء. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُعْرَجْ بِمُوسَى مِنْ قَبْرِهِ، ثم رد إليه، بل ذَلِكَ مَقَامُ رُوحِهِ وَاسْتِقْرَارِهَا، وَقَبْرُهُ مَقَامُ بَدَنِهِ وَاسْتِقْرَارُهُ إِلَى يَوْمِ مَعَادِ الْأَرْوَاحِ إِلَى أَجْسَادِهَا، ومن كثف إدراكه عن هَذَا، فَلْيُنْظَرْ إِلَى الشَّمْسِ فِي عُلُوِّ مَحِلِّهَا وَتَأْثِيرِهَا فِي الْأَرْضِ وَحَيَاةِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ بِهَا، وشأن الروح فوق هذا.

فَقُلْ لِلْعُيُونِ الرُّمْدِ إِيَّاكِ أَنْ تَرَيْ ... سَنَا الشمس فاستغشي ظلام اللياليا

قال ابن عبد البر: كَانَ بَيْنَ الْإِسْرَاءِ وَالْهِجْرَةِ سَنَةٌ وَشَهْرَانِ. انْتَهَى. وكان الإسراء مرة، وَقِيلَ: مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً يَقَظَةً، وَمَرَّةً مَنَامًا، وَأَرْبَابُ هذا كَأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ حَدِيثِ شريك وغيره؛ لقوله فيه: ثم استيقظت وأنا في المسجد، وقوله فيه: وذلك قبل أن يوحى إليه (١) .


(١) وهذا أيضا مما عده الحفاظ من منكرات شريك.

<<  <   >  >>