للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك أكمله وَأَتَمُّهُ، وَلَمَّا كَانَ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللَّهِ فِي الخارج فرعا على جهاد النفس، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نفسه في ذات الله» (١) كان جهادها مقدما. فَهَذَانِ عَدُوَّانِ قَدِ امْتُحِنَ الْعَبْدُ بِجِهَادِهِمَا، وَبَيْنَهُمَا عَدُوٌّ ثَالِثٌ لَا يُمْكِنُهُ جِهَادُهُمَا إِلَّا بِجِهَادِهِ، وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَهُمَا يُثَبِّطُ الْعَبْدَ عَنْ جِهَادِهِمَا، وهو الشيطان، قال الله تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فَاطِرٍ: ٦] (٢) . وَالْأَمْرُ بِاِتِّخَاذِهِ عَدُوًّا تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِفْرَاغِ الوسع في محاربته، فهذه ثلاثة أعداء أمر العبد بمحاربتها، وسلطت عليه امتحانا من الله، وأعطي العبد مددا وقوة، وبلي أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْآخَرِ، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً، ليبلو أخبارهم، فَأَعْطَى عِبَادَهُ الْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْعُقُولَ وَالْقُوَى، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وَأَمَدَّهُمْ بِمَلَائِكَتِهِ، وأمرهم بِمَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعَوْنِ لَهُمْ عَلَى حرب عدوهم، وأخبرهم أنهم إن امتثلوه لَمْ يَزَالُوا مَنْصُورِينَ عَلَى عَدُوِّهِ وَعَدُوِّهِمْ، وَأَنَّهُ إِنْ سَلَّطَهُ عَلَيْهِمْ؛ فَلِتَرْكِهِمْ بَعْضَ مَا أُمِرُوا به، ثم لم يؤيسهم، بل أمرهم أن يداووا جراحهم، ويعودوا إلى مناهضة عدوهم بصبرهم، وأخبرهم أَنَّهُ مَعَ الْمُتَّقِينَ مِنْهُمْ، وَمَعَ الْمُحْسِنِينَ، وَمَعَ الصَّابِرِينَ، وَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ يُدَافِعُ عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَا لَا يُدَافِعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، بَلْ بدفاعه عنهم انتصروا، ولولا ذلك لاجتاحهم عدوهم. وهذه المدافعة بحسب إيمانهم، فإن قوي إيمانهم قويت، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ. وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُجَاهِدُوا فِيهِ حَقَّ جِهَادِهِ، كَمَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَكَمَا أَنَّ حَقَّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ - فَحَقُّ جِهَادِهِ أَنْ يجاهد نفسه؛ ليسلم قلبه ولسانه وجوارحه لِلَّهِ وَبِاللَّهِ، لَا لِنَفْسِهِ وَلَا بِنَفْسِهِ، وَيُجَاهِدُ شيطانه بتكذيب وعده ومعصية أمره، فإنه يعد الأماني، ويمني الغرور، ويأمر بالفحشاء، وينهى عن الهدى وأخلاق الإيمان كلها، فينشأ له من هذين الجهادين قوة وعدة، يجاهد بها أعداء الله بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ وَمَالِهِ؛ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العليا. واختلفت


(١) أخرجه الترمذي.
(٢) سورة فاطر، الآية: ٦.

<<  <   >  >>