للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

[٢٦ - الترجمة]

لغةً: ترجم الكلام يترجمه: إذا فسَّره بلسان آخر. والتَّرجمان هو الذى يترجم الكلام أى ينقله من لغة إلى لغة أخرى. والجمع: تراجم وتراجمة. وفى حديث البخارى أن أبا سفيان كان بالشام فأرسل إليه هرقل فجاء إليه أبو سفيان، ومعه ركْب من قريش "فدعاهم فى مجلسه، وحوله عظماء الروم. ثم دعاهم، ودعا ترجمانه. " (رواه البخارى) (١).

والترجمة: التفسير، والنقل من لغة إلى لغة. وترجم لفلان: ذكر ترجمته أى ذكر سيرته وحياته. وهو مُوَلَّد (كلما جاء فى المعجم الوسيط).

واصطلاحا: هى نقل العلوم والمعارف من لغة إلى لغة أخرى، سواء أكان هذا النقل بطريق مباشر، أو عن طريق لغة وسيطة. وقد استعملت كلمة النقل- فى كتب القدامى- على سبيل التبادل أو الترادف مع كلمة الترجمة، فابن النديم يتحدث عن أسماء النقلة أى المترجمين من اللغات إلى اللسان العربى (٢). ويقول القفطى عن حنين ابن إسحاق- أحد كبار المترجمين "وقعد فى جملة المترجمين لكتب الحكمة، واستخراجها إلى السريانى والعربى، واختير للترجمة وأؤتمن عليها .. وله من الكتب التى ألفها سوى ما نقله من كتب الحكماء" (٣).

ويتفق الدارسون للترجمة على أنها قديمة قدم العمران البشرى. وكان ظهورها- على نحو ما- بين المجتمعات البشرية منذ تعددت لغاتها، وتنوعت ثقافاتها وحضاراتها. ولعلها بدأت- فى صورتها الأولى- على هيئة ترجمة إشارية، وذلك عندما أدرك مجتمع من المجتمعات أنه يوجد إلى جواره من يتكلم لغة أخرى غير لغته. ثم تطورت الترجمة- بعد ذلك- إلى ما يمكن تسميته، تسامحا، بالترجمة الوظيفية، التى ظهرت فى دائرة التجارة وفى صحبة الجيوش المحاربة، لاسيما عند إجراء المفاوضات وعقد المعاهدات وتبادل الأسرى. وكان المترجمون حجة يرجع إليها عند تفسير نصوص الاتفاقيات وفى هذه الحالات كان يُثْبَت- بصفة خاصة- اسم المترجم فى نص المعاهد ة (٤).

وكان الحكَّام- كذلك- بحاجة إلى هؤلاء المترجمين لمعاونيهم فى ترجمة الرسائل الواردة إليهم من الدول الأخرى، والرد عليهما، باللغة نفسها أحيانا" منعاً للَّبس وسوء التفسير، وحسما للخلاف. ثم لم تقتصر الترجمة على هذين النمطين من الترجمة، بل امتد نطاقها إلى حقول العلم والفكر والثقافة والفن والأدب والفلسفة ونحوها وأصبحنا- عندئذ- أمام الترجمة فى ثوبها العلمى، التى تخضع- أو ينبغى أن تخضع- فى كل مرحلة من مراحلها إلى قواعد وأصول منهجيه يجتهد أهل الاختصاص فى تحديدها، والحكم على الترجمة بمقتضاها. وهذا النوع من الترجمة هو الأجدر بالمصطلح، وهو الأوْلى بالاستحضار الذهنى عند ذكره. وتعد الترجمة بين اللغات حاجة من الحاجات الأصيلة للبشرية، وهى واحدة من أهم السبل، إن لم تكن أهمها، لنقل الخبرة والمعرفة من أمة إلى أمة، ومن حضارة إلى حضارة، وهى وسيلة إلى تعويض التخلف واختصار الزمن، وتجنب العقبات والمعوقات التى وقعت فيها أمم أخرى.

ولهذا قيل: إن كل خلية ترجمة تمثل "هوائيا" معرفيا يلتقط خبرات الأمم الأخرى، وبهذا تنظر الأمة إلى ما حولها بعيون كثيرة بدلا من عين واحدة، ومن نوافذ كثيرة متعددة، بدلا من نافذة واحدة، وبذلك تكون الرؤية أوضح، والآفاق أفسح (٥) ". غير أن الترجمة لا تؤدى إلى تحقيق هذه الغاية النبيلة إلا إذا اجتمعت لها عوامل النجاح الضرورية، وهى عوامل ترتبط بموضوع الترجمة، وبالشروط التى يجب أن يتصف بها المترجمون. فأما موضوع الترجمة فإنه ينبغى أن يخضع لاختيار دقيق، يتحقق به ما يمكن التعبير عنه بعنصر الملاءمة والمواءمة، ونعنى بذلك أن تكون الترجمة متوافقة مع ثقافة المجتمع والقيم السائدة فيه، بحيث لا تتصادم معها أو تعمل على هدمها، ثم أن تكون ملبِّية لحاجاته بحيث تكون عاملا من عوامل تطوره، ومعاونته على التخلص من جوانب التخلف فيه، وإنما كان ذلك ضروريا لأن الترجمة أشبه بنقل الدم أو نقل الأعضاء. ولابدَّ فى الحالتين من وجود نوع من التجانس الذى يؤدى إلى تسهيل قبول الجسم لما ينقل إليه، وإلا فإن الجسم سيرفضه. ومن ثم فإن الأعمال التى ستتم ترجمتها ستلقى مقاومة فى المجتمع الذى ستنقل إليه إذا لم يتحقق لها عنصر الملاءمة.

وينطبق ذلك على ما يتم ترجمته فى نطاق الثقافة بمعناها العام، وستكون المقاومة أكثر حدة وقوة إذا جاءت متعارضة مع المقومات الأساسية للمجتمعات كالدين والقومية واللغة والهوية والانتماء الحضارى. وربما تتفاوت المجتمعات فى ملاحظة جانب المواءمة: ضيقا واتساعا، وتشددا وتسامحا ولكن ذلك أمر لا يصح إغفاله أو إهماله، إذا أريد للترجمة أن تحقق الغايات المرجوة منها.

وأما شروط المترجمين فهى كثيرة، ومن أهمها:

- أن يكون المترجم مُجيد لِلغُّة التى يترجم منها، ولِلغُّة التى يترجم إليها، بحيث يعرف دقائقهما وأسرارهما، وطرائقهما فى التعبير، عن الحقيقة والمجاز والصور الجمالية، والتراكيب النحوية واللغوية، ليكون ذلك عونا له فى دقة الترجمة وحسن أدائها لما تضمنه النص الأصلى المترجم من حقائق وأفكار.

- أن يكون على علم بموضوع الترجمة، والتخصص الذى تقع فيه، لأن لكل تخصص مصطلحاته الدقيقة التى قد يصعب أو يتعذر علي غير أهل التخصص إدراكها، ودقة التعبير عنها.

- أن يتصف المترجم بالأمانة العلمية التى تستوجب نقل النص المترجم كما هو، دون زيادة أو نقصان أو تحريف أو تصرف، وأن يؤدى معانى النص، دون تدخل منه، حتى ولو كان مخالفا لآرائه وأفكاره، ويمكن له التعليق علي النص بما يشاء، بعد أن يترجم النص ترجمة أمينة.

وليس تحقيق هذه الشروط بالأمر السهل، وقد تحدث الجاحظ (٦) من قديم عن صعوبة الترجمة، وعدم قدرتها على نقل المعانى، ولاسيما فى الشعر والنصوص الدينية وذكر أن من بين أسباب ذلك: عدم قدرة المترجمين أنفسهم على معرفة دقائق المعانى التى تتضمنها النصوص المترجمة، ثم عجزهم عن ترجمة هذه المعانى، إذا تمكنوا من معرفتها، وهنالك- كذلك- صعوبات وآفات تصاحب النسخ والنقل، اللذين لا يخلوان- فى العادة- من الأخطاء وقد قيل حديثا: إن الترجمة خيانة للنص. ولا يخلو هذا القول من مبالغة، ولكنه- مع ذلك- يوجِّه الأنظار إلى الصعوبات التى تكتنف عملية الترجمة. وللترجمة فى النقل طريقان، كما يقول الصفدى:

أحدهما: أن ينظر المترجم إلى كل كلمة مفردة، ثم يأتى بكلمة مرادفة لها فى اللغة التى يترجم إليها، ويجرى على هذا النحو فيما يقوم بترجمته. ويطلق على هذا النوع من الترجمة: الترجمة الحَرْفية. وقد وُصفت هذه الطريقة بأنها رديئة لوجهين:

أحدهما أنه قد لا توجد فى اللغة المترجم إليها كلمات تقابل وتعادل جميع الكلمات فى اللغة المترجم منها.

والثانى: أن خواص التركيب والنِّسَبِ الإسنادية لا تطابق نظيرها فى اللغة الأخرى، ثم إن اللغات تختلف كذلك من جهة استعمال المجازات، وهى كثيرة فى جميع اللغات.

أما الطريق الثانى: فهو الترجمة المعنوية. والمترجِمُ بحسب هذه الطريقة "يأتى إلى الجملة فيحصل معناها فى ذهنه، ويَعبِّر عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها، سواء ساوت الألفاظ الألفاظ أم خالفتها وهذه الطريقة أجود" (٧). ولعل الطريقة الأولى أنسب فى ترجمة العلوم التجريبية الاستقرائية والعلوم الرياضية، ولعل الثانية أنسب فى ترجمة العلوم الإنسانية والاجتماعية، مع بذل الجهد فى الارتباط بالنص، والعمل على تحقيق الأمانة فى نقله كما سبق القول.

ا. د/ عبد الحميد عبد المنعم مدكور

١ - صحيح البخارى: باب كيف كان بدء الوحى.

٢ - الفهرست، لابن النديم ص ٣٤٠ - ٣٤٢.

٣ - إخبار العلماء بأخبار الحكماء، ص ١١٧ - ١٢١.

٤ - راجع: كرامرز: مادة ترجمان بدائرة المعارف الإسلامية ٩/ ٢٦٢ - ٢٦٥، طبعة الشعب.

٥ - انظر: أبو يعرب المرزوقى، مدخل عام- ضمن كتاب الترجمة ونظرياتها ص ٣٥، ومحمد عبد الغنى حسن: فن الترجمة ص ٨٣.

٦ - انظر: الحيوان، للجاحظ ١/ ٧٥ - ٧٩.

٧ - صون المنطق والكلام، للسيوطى ١/ ٤٣.


المرجع
١ - الترجمة قديما وحديثا. شحاذة الخورى، تونس ١٩٨٨م.
٢ - الترجمة ونظرياتها (لابن يعرب المرزوقى وأخرين) تونس ١٩٨٩م.
٣ - الحيوان، للجاحظ، تحقيق الأستاذ عبد السلام هارون، طبع الحلبى ١٩٣٨ م ح ١.
٤ - صون المنطق والكلام عن فَنَّى المنطق والكلام، لجلال الدين السيوطى، تحقيق د/ على النشار والسيدة سعاد عبد الرازق، طبع مجمع البحوث الإسلامية ١٩٧٠م.
٥ - فن الترجمة للأستاذ محمد عبد الغنى حسن. الدار المصرية للتأليف والترجمة ١٩٦٦م.
٦ - المدخل إلى الترجمة، د/ سلمان الواسطى وآخرين- العراق ١٩٧٩م.
٧ - الترجمة والتنمية الثقافية، أصدرته لجنة الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة بمصر- إعداد لمعى المطيعى ١٩٩٢م.
٨ - بواكير حركة الترجمة فى الإسلام د./ عبد الحميد عبد المنعم مدكور- دار الثقافة العربية ١٩٩٥م.

<<  <   >  >>