للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

[٤٨ - التقليد]

لغة: مصدر للفعل الرباعى "قلَّد" بتضعيف اللام المفتوحة يقال: قلد فلان فلانا الأمر أى ألزمه إياه.

كما يقال: قلد الماء فى الحوض واللين فى السقاء يقلده قندا أى جمعه فيه.

ويقال: التقليد فى الدين، وتقليد الولاة والأعمال .. وتقلد الأمر احتمله كما فى لسان العرب (١).

واصطلاحا: يقصد به التزام حكم المقلد من غير دليل بحيث يلتزم المقلد قول المقلد شرعا فينعقد ما حرمه حراما وما أوجبه واجبا، وما أباحه مباحا من غير دليل يستدل به على شىء من ذلك اللهم إلا قول من قلده (٢).

وقد عرفه الإمام الشيرازى بأنه "قبول القول من غيردليل " (٣).

وعرفه إمام الحرمين بأنه "قبول قول الغير من غير حجة" (٤).

وقد فسر إمام الحرمين هذا القول قائلا: "فعلى هذا قبول العامى قول المفتى تقليد. وقبول من يروى أخبار الآحاد قولا وسمعه من خلق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس تقليدا لأنه حجة فى نفسه".

وقبول قول الصحابى تقليد إن لم نجعل أقوالهم حجة، ولم نر الاحتجاج بقولهم. فإن اعتبرنا أقوالهم حجة يحتج بها فعند ذلك لا يسمى قبول أقوالهم تقليدا.

وعرف ألإمام الآمدي التقليد بأنه "العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة" (٥).

وذكر الإمام الشوكاني له عدة تعريفات منها أنه "العمل بقول الغيرمن غيرحجة".

ثم اختار من بين هذه التعريفات تعريفا رآه هو الأولى وهو: "قبول رأى من لا تقوم به الحجة بلا حجة".

والتقليد نوعان (٧): تقليد سائغ بل واجبا، وتقليد مرفوض مذموم.

فأما التقليد المذموم المرفوض فهو أن يكون هناك إعراض عما انزل الله وعدم التفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء، والأجداد، أو يكون فى صورة تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يأخذ بقوله أو أن يكون تقليده بعد قيام الحجة، وظهور الدليل على خلاف قول المقلد.

ولا أدل على رفض مثل هذا التقليد وذمه من قول الله سبحانه وتعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئأ ولا يهتدون) البقرة:١٧٠.

وقوله جل وعلا: {وكذلك ما أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم) الزخرف:٢٣ - ٢٤.

فالتقليد الواجب المستساغ هو: تقليد من بذل جهده فى اتباع ما أنزل الله وخفى عليه بعضه فقلد فيه من هوأعلم منه فلا شك أن مثل هذا التقليد محمود غير مذموم، ومأجور غير مأزور، والدليل على صحة مثل هذا التقليد أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يفتون ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم وهذا تقليد منهم قطعا؛ إذ إن قولهم لا يكون

حجة فى حياة رسول صلى الله عليه وسلم.

وقد قال الحق سبحانه وتعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} التوبة:١٢٢.

فقد أوجب الحق سبحانه وتعالى عليهم قبول ما أنذرهم به إذا رجعوا إليهم وهذا تقليد منهم للعلماء، وقد جاءت شريعتنا الغراء بقبول قول القائف (الذى يتتبع الآثار ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه) والخارص (اسم فاعل من خرص النخلة والكرمة إذا حز ما عليها من الرطب تمرا والعنب زبيبا) والمقوم للمتلفات وغيرها ولاشك أن هذا تقليد محض.

وجميع علماء الأمة قد صرحوا بجواز التقليد فقد قال محمد بن الحسن الشيبانى صاحب الإمام أبى حنيفة رضى الله عنه "يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه ولا يجوزله تقليد من هو مثله" وقد صرح الإمام رضى الله عنه بالتقليد فقال فى مسألة بيع الحيوان بالبراءة الأصلية من العيوب: قلته تقليدا لعثمان. وهذا هو الإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول فى مسائل الآبار وليس منه فيها، إلا تقليد من تقدمه من التابعين فيها وهذا هو الإمام مالك رضى الله عنه لا يخرج عن عمل أهل المدينة ويصرح فى موطئه بأنه أدرك العمل على هذا، وهو الذى عليه أهل العلم ببلدنا، ويقول فى غيرموضع:

"ما رأيت أحدا واقتدي به يفعله، وقد قال الإمام الشافعى -رحمه ألله- فى الصحابة: رأيهم لنا خيرمن رأينا لأنفسنا.

والحق أن مصلحة الخلق لا تقوم إلا بالتقليد وذلك عام فى كل علم وصناعة وقد فاوت الله سبحانه وتعالى بين قوى الأذهان كما فاوت بين قوى الأبدان، فلا يحسن فى حكمته وعدله ورحمته أن يفرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله.

هذا ولا يجوز للمقلد أن يفتى فى دين الله بما يقلد فيه وليس على بصيرة منه سوى أنه قول من قلده، وهذا بإجماع السلف كلهم وقد اشترط الإمام الغزالى -رحمه الله- فى سبيل الوصول إلى الحقائق أن يكون الباحث حر العقل مستقل التفكير، وقد ندد بكل فكر موسوم بالتبعية، والمحاكاة، وبلغ من حرصه على هذا المبدأ انه ختم كتابه فى المنطق "معيار العلم "بدعوة للقارئ إلى أن يدرسه بروح الفهم لا بروح التقليد.

أ. د/محمد عبد اللطيف جفال الدين


الهامش:
١ - لسان العرب لابن منظور ٥/ ٢٧١٨.
٢ - كتاب الحدود ص٦٤.
٣ - اللمع للشيرازى ص٤٥٠ البرهان ٢/ ٨٨٨.
٤ - الإحكام فى أصول الأحكام للأمدى ٤/ ٢٩٧.
٥ - إرشار الفحول ص٣٦٥.
٦ - إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية ٢/ ١٦٨ وما بعدها

<<  <   >  >>