للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

[٢ - الحب الإلهى]

نشأ مصطلح "الحب الالهى" بمعناه القريب فى الحياة الروحية فى الاسلام فى القرن الثانى الهجرى.

وكانت الحياة قبل ذلك يحركها عامل "الخوف" من الله ومن عقابه، وكان "الحسن البصرى" (٢١ - ١١٠هـ) أبرز ممثلى هذا الطور فى حياة الزهاد والعباد الأوائل، فقد عرف عنه أنه كان يبكى من خوف الله حتى قيل "كأن النار لم تخلق إلا له".

ويميل مؤرخو التصوف الإسلامى إلى القول بأن رابعة العدوية (ت ١٨٥هـ) هى أول من أخرجت التصوف من الخضوع لعامل "الخوف" إلى الخضوع لعامل "الحب "، وأنها أول من استخدم لفظ "الحب " استخداما صريحا فى مناجاتها وأقوالها المنثورة والمنظومة، وعلى يديها ظهرت نظرية "العبادة" من أجل محبة الله، لامن أجل الخوف من النار أو الطمع فى الجنة.

وكان الصوفية -قبل رابعة- يترددون فى قبول كلمة "الحب" فمالك بن دينار الصوفى (ت ١٣١هـ) كان يتحاشى لفظ "الحب" ويستخدم بدله كلمة "الشوق"، وعبدالواحد بن زيد (ت ٧٧هـ) كان يفضل لفظ "العشق" فى أقواله. ومع رابعة بدأت كلمة أو مصطلح "الحب الإلهى" تأخذ مكانها فى أقوال الزهاد ممن جاؤوا بعدها، مثل: معروف الكرخى (ت ٢٠١هـ)، والمحاسبى (ت ٢٤٣هـ) الذى خصص لموضوع "المحبة" فصلا كاملا فى كتابه: "الرعاية"، وذى النون المصرى (ت ٢٤٥هـ) الذى فاضت مأثوراته بهذه الكلمة.

ثم استكملت نظرية "الحب الالهى" ملامحها وقسماتها بعد ذلك فى مؤلفات كبار شيوخ التصوف، مثل: التعرف للكلاباذى (ت ٣٨٠هـ)، وقوت القلوب لأبى طالب المكى (٣٨٦هـ)، وكشف المحجوب للهجويرى (حوالى٤٦٥هـ)، والرسالة للقشيرى (٤٦٥هـ)، وإحياء علوم الدين للغزالى (٤٥٠ - ٥٠٥هـ). لكنها أخدت أبعادا عرفانية وفلسفية بالغة التعقيد ظهرت أولا فى تصوف الحلاج (ت ٣٠٩هـ) ثم اكتملت بعد ذلك فى أشعار ابن الفارض (ت ٦٣٢هـ)، ومؤلفات الشيخ الأكبر ابن عربى (ت ٦٣٨هـ).

وقد جمع القشيرى فى رسالته تعريفات عديدة لمعنى "المحبة الإلهية"، كما أحصى ابن القيم فى مدارج السالكين (ج ٣) ثلاثين تعريفا للمحبة بالمعنى الصوفى.

ومن الشيوخ من يرى أن تعريفها يستعصى على العبارة للطافتها، وصاحب عوارف المعارف (السهروردى) يعرف الحب بتقسيمه إلى سببين: عام وخاص، والأول ثمرة امتثال الأوامر واجتناب النواهى، وهو من "المقامات "، لأن للسالك مدخلا فى اكتسابه، والحب الثانى (الخاص) هو ماينشأ عن انكشافات الروح، وهذا النوع من "الأحوال" وليس للعبد كسب فيه. أما الهروى (ت ٤٨١هـ) فيعرف المحبة بأنها "تعلق القلب بين الهمة والأنس " بما يعنى تعلق القلب بالمحبوب تعلقا حائرا بين طلب المحب لمحبوبه طلبا لاينقطع، وبين أنسه بمحبوبه.

وللمحبة درجات:

الأولى محبة تقطع وساوس القلب، وتلذ الخدمة وتسلى عن المصائب، وتنشأ من ملاحظة العبد لنعم المولى الظاهرة والباطنة، وثبات هذه المحبة يكون بمتابعة النبى صلى الله عليه وسلم والتأسى به.

والثانية محبة تبعث على إيثار الحق على كل ما سواه، وتنشأ بسبب من مطالعة العبد للصفات الإلهية، والارتياض بالمقامات الروحية.

والثالثة محبة تنشأ من مشاهدة جمال المحبوب، وفى هذه الدرجة يختطف قلب المحب وتنقطع عبارته وإشارته، وحقيقة هذه الدرجة: الفناء فى المحبة وفى الشهود.

والمحب إذا كان واعيا بحبه ومكتسبا له سمى "محبا" وإذا كان مختطفا بالحب سمى "عاشقا" والفرق بينهما -فيما يقول شيوخ التصوف- أن المحب مريد والعاشق مراد.

ونظرية "الحب الإلهى" مستقاة فى أصولها من معانى أسماء الله الحسنى وصفاته كالودود واللطيف والرحيم، ومن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التى تحدثت عن الحب الإلهى، ومنها على سبيل المثال -لا الحصر- قوله تعالى: {يحبهم ويحبونه} المائدة:٥٤، وقوله (اللهم اجعل حبك أحب إلى من نفسى وأهلى ومن الماء البارد) (سنن الترمذى، كتاب الدعوات، باب:٧٣، حديث ٣٤٩٠).

أ. د/أحمد الطيب


مراجع الاستزادة:
١ - الرسالة القشيرية، تحقيق د/عبدالحليم محمود ج٢ ص٦١٠ دار الكتب الحديثة القاهرة.
٢ - كشف المحجوب للهجويرى، ترجمة د/إسعاد قنديل، دار النهضة، بيروت ١٩٨٠م.
٣ - ابن الفارض والحب الإلهى محمد مصطفى حلمى دار المعارف ١٩٧١م.
٤ - منازل السائرين شرح القاشانى، ط قم إيران ١٤١٣هـ

<<  <   >  >>