للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

[٢٩ - العلمانية]

العلمانية مصطلح ترجم بمصر والمشرق العربى للكلمة الإنجليزية ( SECULARISM) بمعنى: الدنيوى والواقعى، والعالمى .. ذلك لأن العلمانية هى نزعة فلسفية وفكرية وسياسية واجتماعية ترى العالم مكتفيا بذاته، تدبره الأسباب الذاتية المودعة فيه .. فالعالم والواقع والدنيا هى مرجعية التدبير للاجتماع الإنسانى والدولة والحياة، ومن ثم فإن الاجتماع والحياة والدولة ليست فى حاجة إلى مدبر من خارج هذا العالم ومن وراء هذه الطبيعة .. والإنسان مكتف بذاته، يدبر شئونه ويبدع قيمه ونظمه بواسطة العقل والتجربة، وليس فى حاجة إلى شريعة سماوية تحكم هذا التدبير.

فالعلمانية- لذلك- تضبط بفتح العين، لأنها نسبة إلى العالم وهناك فى المغرب العربى من يترجمها بالدنيوية.

ولقد نشأت العلمانية- بأوربا- فى سياق النهضة الحديثة، وكانت من أبرز معالم فلسفة التنوير الوضعى الغربى، التى جابه بها فلاسفة عصر الأنوار- فى القرنين السابع عشر والثامن عشر- سلطة الكنيسة الكاثوليكية بعد أن تجاوزت هذه الكنيسة الحدود التى رسمتها لها النصرانية، وهى خلاص الروح، ومملكة السماء، وترك ما لقيصر لقيصر والاقتصار على ما لله .. لقد تجاوزت الكنيسة- حدود رسالتها واختصاصاتها، فبعد عصور من سيادة نظرية " الّسيْفَين theory of the two swords أى السيف الروحى- أو السلطة الدينية للكنيسة- والسيف الزمنى أى السلطة المدنية للدولة جمعت الكنيسة السلطتين معا فضمت ما لقيصر إلى ما للكنيسة واللاهوت فى ظل نظرية "السيف الواحد" theory of one sword

وتحت حكم "البابوات الأباطرة" أضفت الكنيسة قداسة الدين وثباته على المتغيرات الدنيوية والاجتماعية- أفكارا وعلوما ونظما- فرفضت وحرمت وجرمت كل ما لا وجود له فى الأناجيل، وبذلك دخلت أوربا عصورها المظلمة، الأمر الذى استنفر رد الفعل العلمانى، الذى حرر الدنيا من كل علاقة لها بالدين. ففى مواجهة الكهنوت الكنسى الذى قدس الدنيا وثبتها، وجعل اللاهوت النصرانى المرجع الوحيد للسياسة جاء رد الفعل العلمانى لينزع كل قداسة عن كل شئون الدنيا، وليحرر العالم من سلطان الدين، وليعزل السماء عن الأرض، جاعلا العالم مكتفيا بذاته، والاجتماع والدولة والنظم والفلسفات محكومة بالعقل والتجربة، دونما تدخل من الدين.

ولقد ساعدت الملابسات التى نشأت فيها العلمانية على هزيمة الكنيسة وتراجع اللاهوت النصرانى أمام النزعة العلمانية. وكان التخلف الأوربى شاهدا على فشل الحكم الكنسى الكهنوتى وكانت هذه الملابسات الواقعية والمواريث الدينية والفلسفية- فى أوربا- عونا لانتصار العلمانية على الكنيسة وسلطانها.

ولقد تميز تياران فى إطار فلاسفة العلمانية الأوربية:

أولا: تيار مادى ملحد، طمح إلى تحرير الحياة- كل الحياة- من الإيمان الدينى .. وكانت الماركسية أبرز إفرازات هذا التيار.

ثانيا: تيار مؤمن بوجود خالق للكون والإنسان، لكنه يقف بنطاق عمل هذا الخالق عند مجرد الخلق فيحرر الدولة والسياسة والاجتماع من سلطان الدين، مع بقاء الإيمان الدينى علاقة خاصة وفردية بين الإنسان وبين الله .. ومن فلاسفة هذا التيار "هوبر (٥٨٨ ١ - ٦٧٩ ١م)، ولوك (٦٣٢ ١ - ١٧١٦م)، وليبيز (١٦٤٦ - ١٧١٦ م)، وليسينج (١٧٩٢ - ١٨٧١م)، ورسو

(١٧١٢ - ٧٧٨ ١م) ".

ولقد ظلت العلمانية خصوصية غربية حتى القرن التاسع عشر، عندما جاءت إلى بلادنا الإسلامية فى ركاب النفوذ الأجنبى والاستعمار الغربى الحديث .. وإذا كانت مصر بحكم موقعها قد مثلت طليعة الأقاليم الشرقية فى التأثر بالفكر الأوروبى ومنه العلمانية فلقد كان وفود العلمانية إليها نموذجا لتسللها من أوربا إلى بلاد الشرق الإسلامى فى ركاب النفوذ الأجنبى والاستعمار الحديث.

فبعد تحطيم النظام الحمائى للصناعة والتجارة الذى أقامه محمد على باشا فى مصر، زاد نفوذ التجار الأجانب، ونشأت على عهد الخديوى سعيد، فى سنة ٢٧٢ ١هـ ١٨٥٥م أول محكمة تجارية مختلطة بين المصريين والأجانب "مجلس تجار" تسلل إليها القانون الوضعى الفرنسى.

ومع تزايد أعداد الجاليات الأجنبية ونفوذها وخاصة بعد عقد اتفاقية حفر قناة السويس نشأت المحاكم القنصلية لتقضى فى المنازعات الناشئة بين المصريين وبين الأجانب، وقضاتها أجانب ولغاتها أجنبية، وقانونها وضعى علمانى.

ولما زادت فوضى القضاء القنصلى تم إنشاء المحاكم المختلطة بقضاة أجانب ولغة فرنسية وشريعة نابليون.

وبعد أن كان هذا الاختراق فى المحاكم القنصلية ثم المختلطة مقصورا على المنازعات التى يكون أحد طرفيها أجنبيا حدث تعميم لبلوى هذا الاختراق العلمانى فى كل القضاء الأهلى أى فيما عدا المحاكم الشرعية، التى انحصر اختصاصها فى شئون الأسرة والأحوال الشخصية وكان ذلك عقب الاستعمار الإنجليزى لمصر، فيما سمى بالإصلاح القضائى سنة ٨٨٣ ١م.

ولقد استعان الغرب الاستعمارى بنفر من أبناء الأقلية المارونية الذين تربوا فى مدارس الإرساليات التنصيرية بلبنان فى الدعوة إلى نموذجه الحضارى العلمانى، فكان فرح أنطون ٨٧٤ ١ - ٩٢٢ ١م أول دعاة العلمانية فى بلادنا .. ثم تخلّق للعلمانية تيار فكرى بلغ ذروته فى كتاب الشيخ على عبدا لرازق (٨٨٧ ١ - ٩٦٦ ١م) عن (الإسلام وأصول الحكم) الذى صدر سنة ٩٢٥ ١م مصورا الإسلام كالنصرانية دينا لا دولة، ورسالة لا حكما، يدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

وفى مواجهة هذا التسلل العلمانى إلى بلادنا كانت مقاومة تيار الإحياء والتجديد الدينى لعلمانية القانون والنهضة .. فلقد رأى هذا التيار الإحيائى التجديدى فى العلمانية عدوانا على شمولية المنهاج الإسلامى لأنه دين ودولة وجامع بين ما لقيصر وما لله .. ولأن نطاق عمل الذات الإلهية- فى التصور الإسلامى- لا يقف عند مجرد الخلق، وإنما هو سبحانه وتعالى خالق ومدبر للعالم والاجتماع بواسطة الشرائع والرسالات:) لا له الخلق والأمر [(الأعراف ٥٤) {قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين لا شريك له} (الأنعام ١٦٢، ١٦٣).

فكان رفاعة الطهطاوى (٨٠١ ١ - ٨٧٣ ١م) أول من انتقد تسلل القانون التجارى لنابليون إلى المجلس التجارى فى الموانىء التجارية، ودعا إلى تقنين فقه المعاملات الإسلامية الوافى بتنظيم المنافع العمومية، لأن بحر الشريعة الغراء لم يغادر من أمهات المسائل صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأحياها.

ونهض القانونى البارز محمد قدرى باشا (٨٢١ ١ - ٨٨٨ ١م) وهو من تلامذة الطهطاوى بتقصى فقه المعاملات للمذهب الحنفى، ليقدم البديل الإسلامى فى القانون، كجزء من الرفض والمقاومة للقانون الوضعى العلمانى.

ولقد عبر الإمام محمد عبده (٨٤٩ ١ - ٩٠٥ ١م) بلسان مدرسة الإحياء والتجديد الإسلامى عن ضرورة إسلامية النهضة؛ لأن الإسلام على عكس النصرانية منهاج شامل، فهو: كمال للشخص، وأُلفة فى البيت، ونظام للملك، وسبيل الدين لمريد الإصلاح فى المسلمين سبيل لا مندوحة عنها".

ومنذ ذلك التاريخ، ظل التدافع سجالا، فى واقعنا الفكرى والقانونى والسياسى بين دعاة العلمنة لمشروعنا النهضوى وبين دعاة إسلامية هذا المشروع.

وعندما أعادت مصر صياغة قانونها المدنى، الذى وضعه الدكتور عبد الرزاق السنهورى باشا (٨٩٥ ١ - ١٩٧١م) والذى طبق عقب إلغاء الامتيازات الأجنبية سنة ٩٤٨ ١م، زادت فى هذا القانون مرجعية الشرعية الإسلامية عنها فى سابقه الذى وضع سنة١٨٨٣م ولما وضعت مصر دستورها الجديد سنة ٩٧١ ١م نصت مادته الثانية على أن مبادىء الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للقوانين وفى التعديل، الذى تم الاستفتاء عليه، لهذه المادة سنة ٩٨٠ ١م غدت الشريعة هى المصدر الرئيسى للقوانين، فانفتح بذلك الباب الدستورى أمام المشروع المصرى لأسلمة القانون، ولإجلاء العلمانية عن المواقع التى احتلتها فى بلادنا تحت نفوذ وحراب الاستعمار.

أ. د/ محمد عمارة


المراجع
١ - الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوى: دراسة وتحقيق د. محمد عمارة، ط بيروت سنة ١٩٧٣ م.
٢ - الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده: دراسة وتحقيق د. محمد عمارة. ط دار الشروق. القاهرة ١٩٩٣ م.
٣ - تقويم النيل: لأمين سامى باشا. ط القاهرة ١٩٣٦ م.
٤ - عصر إسماعيل: عبد الرحمن الرافعى. طبعة القاهرة ٩٤٨ ١م.
٥ - العلمانية بين الغرب والإسلام: د. محمد عمارة، ط دار الوفاء. القاهرة ١٩٩٦ م.

<<  <   >  >>