للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

[٥ - المتشابه]

لغة: أشبه الشىء الشىء: ماثله، وشابهه: أشبه، تشابه الشيئان: أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا، والمتشابه: النص القرآنى يحتمل عدة معانى كما فى الوسيط (١).

واصطلاحا: يطلق المتشابه، ويراد به عدة إطلاقات:

أحدها: وهو ما لم يأت فى القرآن بلفظه البتة ما يقصده علماء القرآن من وقوع النظم الواحد على صور شتى، وتتشابه فى أمور، وتختلف فى أخرى، ومن ثم يطلقون عليه متشابه النظم، أو متشابه اللفظ، قال الزركشى: "ويكثر فى إيراد القصص والأنباء، وحكمته التصرف فى الكلام، وإتيانه على ضروب، ليعلمهم عجزهم عن جميع طرق ذلك مبتدأ به ومتكرر (٣). ومن أمثلة ذلك قوله تعالى {واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل} البقرة:٤٨، مع قوله {واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة} البقرة:١٢٣، وقد عنى بتوجيه هذا اللون من نظم القرآن قلة من المفسرين فى تفاسيرهم، ومنهم: شهاب الدين محمود الألوسى فى تفسيره المعروف بروح المعانى، وعلامة المغرب الطاهر بن عاشور فى تفسيره الموسوم بالتحرير والتنوير.

كما أفرده بعض العلماء بالتصنيف، يقول السيوطى "رحمه الله" أفرده بالتصنيف، خلق: أولهم -فيما أحسب-: الكسائى، ونظمه على بن عبد الصمد السخاوى المتوفى سنة ٦٤٣هـ فى كتابه "هداية المرتاب فى المتشابه من الكتاب": وهى منظومة تعرف "بالسخاوية"، وألف فى توجيهه الكرمانى فى كتابه "البرهان فى متشابه القرآن" وأحسن منه "درة التنزيل وغرة التأويل" لأبى عبد الله الرازى ... وفى كتاب أسرار التنزيل المسمى."قطف الأزهار فى كشف الأسرار" الجم الغفير (٣).

ثانيهما: أن يطلق المتشابه صفة مدح لجميع القرآن، ولفظ المتشابه بهذا المعنى هو الوارد فى قوله تعالى {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها} الزمر:٢٣.

أما تبيان كيف أن المتشابه بهذا الإطلاق نعت كمال لجميع القرآن، فإنه من الجلى أن صوغ مادة التشابه فى هذه الآية على صورة التفاعل يقضى بأن الكتاب الكريم ذو أجزاء كلها يشبه بعضه بعضا على ماهو الكثير الغالب فى صورة التفاعل.

وقد بين المفسرون الكمالات التى تتشابه فيها أبعاض الكتاب العزيز، ومن خير وأسد ما فى المقام من عبارات عبارة الزمخشرى، فقد قال فى تفسيرالآية (ومتشابها) مطلق فى مشابهة بعضه بعضا، فكان متناولا لتشابه معانيه فى الصحة والإحكام والبناء على الحق والصدق ومنفعته الخلق، وتناسب ألفاظه وتناسقهما فى التخير والإصابة، وتجاوب نظمه، وتأليفه فى الإعجازوالتبكيت (٤).

والتشابه بهذا المعنى الذى يعم جميع القرآن على نحو ما رأينا لا يتنافى بحال مع وصف الإحكام المذكور فى قوله تعالى {كتاب أحكمت آياته ... } هود:١، والذى يعم هو الآخر القرآن الكريم بأسره، بل يجب الأخد بكلا الوصفين جميعا فى كتاب الله عز وجل دون أن يأتى كلام الحق فى ذلك باطل من بين يديه أو من خلفه؟ ذلك بأن التناقض إنما يلزم إذا كان بين المادتين فى هاتين الآيتين تقابل التضاد، وكيف وكل منهم صفة مدح لا يمكن أن تدل على ما يضاد الأخرى، وإنما على ما يؤاتيهما ويشد من أزرهما وبانطوائهما معا فى صفته شاهد صدقه وآية تنزيل رب العالمين.

وأما الإحكام فمعناه أن آى القرآن كلها قد نظمت نظما محكما لا يعتريه إخلال من جهة اللفظ، ولا من جهة المعنى، ولا من جهة الهدف والغاية، أو أنها أحكمت بالحجج والدلائل، أو جعلت حكمة فنقول حكم إذا صار حكما، لأنها مشتملة على أمهات الحكم النظرية والعملية (٥) وإذن فالقرآن بهذا المعنى محكم فى تشابهه، متشابه فى إحكامه على نحو ما ألمحت إليه عبارة الزمخشرى السابقة.

ثالثهما: أن يرد لفظ المتشابه فى القرآن مقولا على بعض منه مخصوص، مقابلا وقسيما للبعض الآخر الذى يقال عليه وصف المحكم، وبحيث لا يجتمع هذان الوصفان المتقابلان فى شىء واحد ألبتة، وذلك هو ما جاء فى قوله تعالى {هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} آل عمران:٧، وهذا المعنى هو الذى ينصرف إليه لفظ المتشابه عند الإطلاق والتجرد من القرينة.

وإن الناظر فى هذين الوصفين المتقابلين واللذين لا يصدق واحد منهما على ما يصدق عليه الآخرمن الكتاب المجيد، ليرى اختلافا عظيما بين العلماء فى تبيان هذا المعنى.

وأمثل ما اختاره المحققون فى شرح حقيقة القسمين الكريمين ما أفصحت عنه عبارة الفخر الرازى، إذ يقول: "اللفظ الذى جعل موضوعا لمعنى: إما أن يكون محتملا لغير ذلك المعنى، وإما أن لا يكون. فإذا كان اللفظ موضوعا لمعنى ولا يكون محتملا لغيره فهذا هو النص.

وأما إن كان محتملا لغيره فلا يخلو: إما أن يكون احتماله لأحدهما راجحا على الآخر، وإما أن لا يكون كذلك بل يكون احتماله لهما على السواء، فإن كان احتماله لأحدهما راجحا على الآخر سمى ذلك اللفظ بالنسبة إلى الراجح ظاهرا، وبالنسبة إلى المرجوح مؤولا، وأما إن كان احتماله لهما على السوية كان اللفظ بالنسبة إليهما معا مشتركا، وبالنسبة لكل واحد منهما على التعيين مجملا.

فقد خرج من التقسيم الذى ذكرناه أن اللفظ إما أن يكون نصا أو ظاهرا أو مؤولا أو مشتركا أو مجملا، أما النص والظاهر فيشتركان فى حصول الترجيح إلا أن النص راجح مانع من الغير، والظاهر راجح غير مانع من الغير، فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمحكم.

وأما المجمل والمؤول فهما مشتركان فى أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة، فالمجمل إن لم يكن راجحا لكنه غيرمرجوح، والمؤول مع أنه غير راجح فهو مرجوح لا بحسب الدليل المنفرد، فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمتشابه؟ إما لأن الذى لا يعلم يكون النفى فيه مشابها للإثبات فى الذهن، وإما لأجل أن الذى يحصل فيه التشابه يصير غيرمعلوم، فأطلق لفظ المتشابه على ما لا يعلم إطلاقا لاسم السبب على المسبب، فهذا هو الكلام المحصل فى المحكم والمتشابه" (٦).

وخلاصة هذا القول أن المحكم ما كان راجح الدلالة على معناه بنفسه (٧)، احتمل مرجوحا كالظاهر أو لم يحتمل كالنص، المتشابه ما ليس كذلك -أى ما كان غير راجح الدلالة بنفسه مرجوحا كان كالمؤول، أو مستوى الدلالة كالمجمل- وهو كلام سديد، لأن مدار الإحكام على ما تفهمه الآية الكريمة نفسها (٨). إنما هو على الوضوح والتعاصى على الزائغ، وكذلك شأن النص والظاهر اللذين جعل المحكم هو القدر المشترك بينهما، وأن مدار التشابه حسبما صرحته على عون الكلام خفيا ومتبعا للزائغ يبتغى به الفتنة، وإنما يظفر الزائغ بهذه الطلبة فى المجمل والمؤول اللذين جعل المتشابه هو القدر المشترك بينهما كذلك، ثم إن الناس اختلفت اختلافا عظيما كذلك فى قضية العلم بتأويل المتشابه بهذا الإطلاق هل مقصور على الله تعالى، أو هو بحيث يتأتى للراسخين فى العلم أيضا، والصواب الثانى ومن أبرز المتشابه بهذا الإطلاق فى القرآن ما يعرف لدى العلماء بآيات الصفات الخبرية، أو متشابه الصفات كالآيات التى جاء فيها ذكر الوجه واليد والجنب والروح والنفس والاستواء والفوقية والرضا والغضب وما إلى ذلك من كل ما فيه نسبة البعض أو العرض إليه تعالى جسمانيا كان ذلك أو نفسانيا.

ومن حكمة ورود المتشابه بهذا الإطلاق فى القرآن والسنة ما ذكره صاحب الكشاف فقال: لو كان كله (يعنى القرآن) محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه ولا عرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال. ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذى لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به، ولما فى المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والممتزلزل فيه، ولما فى تقادح العلماء، وإتعابهم القرائح فى استخراج معاينة، ورده إلى المحكم من الفوائد الجلية والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله. ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة فى كلام الله ولا اختلاف إذا رأى فيه ما يتناقض فى ظاهره وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد ففكر وراجع نفسه وغيره ففتح الله عليه، وتبين مطابقة المتشابه المحكم ازداد طمأنينة إلى معتقده وقوة فى إيقانه (٨).

أ. د/إبراهيم عبد الرحمن محمد خليفة


الهامش:
١ - المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، دار المعارف، ط٣، ١/ ٤٩٠.
٢ - البرهان فى علوم القرآن، الزركشى، ١/ ١١٢.
٣ - الإتقان فى علوم القرآن، للسيوطى، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ٣/ ٣٩٠.
٤ - الكشاف للزمخشرى ٤/ ٩٥.
٥ - تفسير البيضاوى ص٢٤٧.
٦ - مفاتيح الغيب للفخر الرازى ٧/ ١٦٨.
٧ - هذا القيد لإخراج المؤول فإنه راجح الدلالة على معناه، ولكن ذلك ليس بنفسه، بل بسبب الموجب للحمل على المعنى المؤول إليه.
٨ - الكشاف، ١/ ٢٥٩.

مراجع الاستزادة:
١ - رسالة للدكتوراه "المحكم والمتشابه فى القرآن" إبراهيم عبد الرحمن محمد خليفة.
٢ - مباحث فى علوم القرآن، مناع القطان

<<  <   >  >>