للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

١٦ - المُحَكِّمَةُ

يتفق الباحثون على أن بداية ظهور هذه الفرقة كان فى واقعة (صِفِّين) التى كانت بين على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان- رضى الله عنهما- وقد أجمع الباحثون على أن سبب تسميتهم بالمحكِّمة يرجع إلى شعارهم الذى رفعوه يومذاك: "لا حكم إلا لله". وهناك من يقصر هذه التسمية على أول فرقة من فرق الخوارج ويسمونها "المُحَكِّمة الأولى" (١).

والسبب فى خروجهم- على الإمام على - رضي الله عنه - يرجع إلى رفضهم لما حدث، فعندما أحس معاوية بن أبى سفيان بقرب هزيمة جنده، طلب من جنده رفع المصاحف على أسنة الرماح طالبين تحكيم كتاب الله تعالى. واجتمع على بن أبى طالب مع أصحابه يشاورهم فى هذا التحكيم وبعد الشورى قبل التحكيم. واختار ممثله أبا موسى الأشعرى واختار معاويةُ عمروَ بن العاص.

وفور قبول التحكيم تَمرَّد بعض من جنود على بن أبى طالب وكان أكثرهم من قبيلة تميم (٢). ورفضوا التحكيم قائلين: لا ينبغى أن يحكم أحد فى كتاب الله، فالتحكيم خطأ. لأن حكم الله فى الأمر واضح وجلى، والتحكيم يتضمن شك كل فريق من المحاربين أيهما أحق، وليس يصح هذا الشك، وصاحوا "لا حكم إلا لله " وحينما سمع على بن أبى طالب ذلك قال قوله المشهور: "كلمة حق أريد بها باطل ".

وتسميتهم بالمُحَكِّمة سبقت تسميات الخوارج الأخرى، حيث أن الشعار الذى أخذ منه كان الأسبق فى الظهور من الخروج على الإمام علىّ - رضي الله عنه -.

وتطورت الأمور عند المُحَكِّمة بسرعة فطالبوا الإمام عليا - رضي الله عنه - بأن يحكم على نفسه بالخطأ، ثم تمادوا فى الأمر وطالبوه بأن يحكم على نفسه بالكفر، إن لم يرجع عن عهده مع معاوية رضى الله عنهما.

وذكر أن أحدهم قابل الإمام عليا فقرأ قوله تعالى: {ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} (الزمر ٦٥).

زعماء المُحَكِّمة:

وحينما رجع على بن أبى طالب من صفين فدخل الكوفة، لم تدخل المُحَكِّمة معه فأتوا حروراء ونزلوا بها- وهذا سبب تسميتهم بالخوارج- واعتزلت المُحَكِّمة الإمام عليّا ودخلوا دارا وهم ستة آلاف وأجمعوا على أن لا يخرجوا إلا لقتال على بن أبى طالب - رضي الله عنه -. وكان على رأسهم عبد الله بن الكواء، وعَتَّاب بن الأعور، وعبد الله بن وهب الراسبى، وعروة بن جرير، ويزيد بن أبى عاصم المحاربى، وحرقوص بن زهير البجلى المعروف بذى الثدية.

مناظرة ابن عباس لهم:

قال ابن عباس: أتيت عليا قبل صلاة الظهر فقلت أبرد بالصلاة لعلّى أدخل على هؤلاء القوم فأكلمهم فقال: إنى أخاف عليك. فقلت: كلا، وكنت رجلا حسن الخلق لا أوذى أحدا فأذن لى فلبست حلة من أحسن ما يكون من اليمن وترجلت فدخلت عليهم نصف النهار فدخلت على قوم لم أر قط أشد منهم اجتهادا، جباههم قرحة من السجود وأياديهم كأنها ثفن الإبل (٣). وعليهم قمص مرحضة مشمرين مسهمة وجوههم من السهر فسلمت عليهم فقالوا: مرحبا بابن عباس ما جاء بك. فقلت: أتيتكم من عند المهاجرين والأنصار ومن عند صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله منكم، فقالت طائفة منهم: لا تخاصموا قريشا فإن الله عز وجل يقول: {بل هم قوم خصمون} (الزخرف ٥٨) فقال اثنان أو ثلاثة: لنكلمنه، فقلت: هاتوا ما نقمتم على صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين والأنصار وعليهم نزل القرآن وليس فيكم منهم أحد وهم أعلم بتأويله. قالوا: ثلاثا، قلت: هاتوا، قالوا: أما أحداهن فإنه حكم الرجال فى أمر الله. وقد قال الله عز وجل: {إن الحكم إلا لله} (يوسف ١٤) فما شأن الرجال والحكم بعد قول الله عز وجل. فقلت: هذه واحدة وماذا؟ قالوا: وأما الثانية فإنه قاتل وقتل ولم يسب ولم يغنم فإن كانوا مؤمنين فلم حل لنا قتالهم ولم يحل لنا سبيهم، قلت: وما الثالثة؟ قالوا: فإنه محا عن نفسه أمير المؤمنين فإنه إن لم يكن أمير المؤمنين فإنه لأمير الكافرين. قلت: هل عندكم غير هذا. قالوا: كفانا هذا.

قلت لهم: أما قولكم حكم الرجال فى أمر الله أنا أقرأ عليكم فى كتاب الله ما ينقض هذا. فإذا نقض قولكم أترجعون؟ قالوا: نعم. قلت فإن الله قد صير من حكمه إلى الرجال فى ربع درهم ثمن أرنب وتلا هذه الآية {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} (المائدة ٩٥) إلى آخر الآية، وفى المرأة وزوجها {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} (النساء ٣٥) إلى آخر الآية فنشدتكم بالله هل تعلمون حكم الرجال فى إصلاح ذات بينهم وفى حقن دمائهم أفضل أم حكمهم فى أرنب وبُضع امرأة فأيهما ترون أفضل- قالوا: بل هذه. قلت: خرجت من هذه. قالوا: نعم. قلت: وأما قولكم قاتل ولم يسب ولم يغنم فتسبون أمكم عائشة- رضى الله تعالى عنها- فوالله لئن قلتم ليست بأمنا لقد خرجتم من الإسلام ووالله لئن قلتم لنسبينها ونستحل منها ما نستحل من غيرها لقد خرجتم من الإسلام. فأنتم بين ضلالتين لأن الله عز وجل قال: {النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} (الأحزاب ٦) أخرجت من هذه. قالوا: نعم. قلت: وأما قولكم محا عن نفسه أمير المؤمنين فأنا آتيكم بمن ترضون أن النبى - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية صالح المشركين أبا سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو. فقال لعلىّ - رضي الله عنه -: اكتب لهم كتابا فكتب لهم علىّ هذا ما اصطلح عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال المشركون: والله ما نعلم أنك رسول الله لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: اللهم إنك تعلم أنى رسول الله امح يا على. اكتب هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله، فوالله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير من على وقد محا نفسه، قال فرجع منهم ألفان وخرج سائرهم فقتلوا.

ألقاب المُحَكِّمة:

عرفت المُحَكِّمة بألقاب عديدة قبل أن يعصف بها التفرق والتمزق إلى جماعات تناصب بعضها بعضا العداء والتكفير ولعل أشهر الألقاب التى عرفوا بها هو الخوارج لخروجهم على طاعة الإمام على بن أبى طالب - رضي الله عنه -، كما أن هناك ألقابا أخرى هى:

١ - الحرورية: ويعتبر هذا اللقب من أسبق الأسماء التى عرفت بها الخوارج حين أنكروا على علىّ بن أبى طالب - رضي الله عنه - قبوله التحكيم فى صفين وانحازوا عنه إلى قرية تدعى حروراء فسموا الحرورية بذلك (٤).

٢ - المارقة: ويعتبر هذا اللقب من أشد الألقاب إيلاما للخوارج، وأبغضه إلى نفوسهم.

٣ - الشراة: وعرفت الخوارج عبر تاريخهم الطويل باسم الشراة لأنهم جعلوا مفهوم الشراية فى سبيل الله غاية يسعى إليها كل فرد.

٤ - الراسبية: وعوفوا بهذا اللقب نسبة إلى (ابن وهب الراسبى).

(هيئة التحرير)

١ - الملل والنحل، للشهرستانى ٥١/ ١١٥، وصبح الأعشى، للقلقشندى ٣/ ٢٢٤، والفرق بين الفرق، للبغدادى ص٦٦.

٢ - يكاد يتفق رواة الحديث والأخبار على أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قد تنبأ بظهور الخوارج حينما جاءه رجل من تميم، يقال له ذو الخويصرة واعترض على قسمته قائلا: لم أرك عدلت! فغضب النبى - صلى الله عليه وسلم -، وقال له: "ويحك! إذا لم يكن العدل عندى، فعند من يكون؟ " فهَّم أحد الصحابة بقتله فقال له - صلى الله عليه وسلم -: " دعه" فإنه سيكون له شيعة يتعمقون فى الدين يتبعون أقصاه، حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية" انظر ابن هشام ٢/ ٤٩٦.

٣ - الثفن: جمع ثفنة ركبة البعير وغيرها مما يحصل فيه غلظ من أثر البروك.

٤ - الفرق بين الفرق، للبغدادى ص٦٧، وتاريخ اليعقوبى ٢/ ١٩١.


المراجع
١ - الفصل فى الملل والأهواء والنحل، لابن حزم، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة ود. محمد إبراهيم نصر، طبعة مكتبات عكاظ، الرياض ١٩٨٢ م.
٢ - اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، للرازى، مراجعة: على سامى النشار، طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة ١٩٣٨ م.
٣ - الفتنة الكبرى، طه حسين، طبعة دار المعارف، مصر، ١٩٦٨ م.
٤ - الخوارج فى العصر الأموى، د. نايف معروف، طبعة دار الطليعة، بيروت، ط ٣، ١٩٨٦ م.

<<  <   >  >>