للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون) (١١٤)

المعنى الإجمالي:

بعد أن بينت الآيات السابقة ما وقع فيه أهل القرية من كفران نعمة الله سبحانه وتعالى، تحث هذه الآية المؤمنين على شكر نعمة الله - سبحانه وتعالى - حتى لا يكونوا مثل أهل القرية الظالمين. وهذا كقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) (البقرة: ١٧٢)

المعنى التفصيلي:

- (فكلوا) الفاء للتفريع، أي بناء على ما سبق من كفران أهل القرية للنعم فاشكروا أيها المؤمنون نعمة الله - سبحانه وتعالى - ولا تكونوا مثلهم.

- (فكلوا) ليس الأكل مقصودا وحده، إنما يندرج ما في معناه من النعم من اللباس والمركب والمسكن، ولكن جاء التعبير بالأكل لأنه أعظم ما يبحث عنه الإنسان أولا، وكذلك فإن تحصيله - وما في معناه من الشراب - متكرر، أما تحصيل اللباس فليس متكررا تكرر الطعام، ألا ترى أن الواحد فينا قد يشتري لباسا ما فيستعمله سنين عددا.

وقد ذكرت آنفا في تفسير الآية (النحل:١١٢) سبب تقديم ذكر الجوع على الخوف في قوله تعالى ( ... فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ... ) وقدم ذكر الجوع على الخوف؛ لأن الجوع أعظم عذابا، ألا ترى أن الإنسان يعيش في خوف الحروب سنين ولكنه لا يستطيع أن يعيش دون طعام أكثر من بضعة أيام، ولذا من الله - سبحانه وتعالى - على أهل مكة بالإطعام أولا ثم بالأمان ثانيا، قال تعالى (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) (قريش: ٤)، إذن توفير الطعام أولا.

وتأمل قوله تعالى (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) (النساء:١٠) والشاهد هو: التعبير بالأكل عن أخذ أموال اليتامى، علما أن الأكل أحد الأشياء المستفادة من المال وليس كل شيء.

- (مما رزقكم الله) أي: من الذي رزقكم الله، وجاء التصريح بذكر لفظ الجلالة "الله" رغم دلالة السياق عليه للتنبيه على مصدر النعم.

- (حلالا طيبا) الطيب ما هو حسن ومستلذ، وكل طيب حلال ولكن ليس كل حلال طيب، ألا ترى أن كسب الحجام حلال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره (صحيح البخاري ج٥/ص٢١٥٤) ولكن عن كسب الحجام خبيث؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (كسب الحجام خبيث) (صحيح مسلم ج٣/ص١١٩٩)

- وقد يأتي " الطيب" في القرآن بمعنى الحلال؛ قال الله تعالى: ( ... ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ... ) (النساء: ٢)، أي: لا تتبدلوا الحرام عليكم من أموالهم بالحلال من أموالكم.

وقد يأتي بمعنى الطاهر؛ قال تبارك وتعالى ( ... فتيمموا صعيدا طيبا ... ) (النساء:٤٣)، وقد يأتي بمعان أخرى.

- (حلالا طيبا) قدم ذكر "الحلال" على "الطيب" لأن ذكر "الطيب" أولا يغني عن ذكر "الحلال"؛ لأن كل طيب حلال وليس العكس، ولكن لأن السياق سياق حث على شكر النعم جاء التفصيل في وصف النعم.

- (واشكروا نعمت الله) ولا تكونوا مثل أهل القرية كفروا بنعم الله ( ... فكفرت بأنعم الله ... ) (النحل: ١١٢) وجاء التصريح بذكر لفظ الجلالة للتنبيه على مصدر النعم، وذكرت "النعمة" لأن السياق سياق حث على شكر النعم فجاء التركيز على ذكر النعم، وتأمل بارك الله فيك قوله تعالى في سورة (البقرة: ١٧٢) ( ... واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) (البقرة: ١٧٢) وقوله تعالى في هذه الآية (واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون)

- (نعمت الله) أي جنس النعم، ولكن جاء التعبير عن النعم في هذه الآية بالمفرد "نعمة" بينما جاء التعبير بالجمع في وصف إبراهيم - عليه السلام - في قوله تعالى (شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم) (النحل: ١٢١)؛ لأن السياق سياق مدح لإبراهيم - عليه السلام - فجاء وصفه بأنه شاكر لأنعم الله سبحانه وتعالى، وأما هنا فإن الأمر لعموم المؤمنين، ولن يكون عموم المؤمنين بمنزلة إبراهيم عليه السلام، ولذا جاء الطلب من المؤمنين بالشكر بصيغة المفرد الدالة على الجنس وليس بصيغة الجمع؛ لأنهم لن يقدروا أن يكونوا بمنزلة إبراهيم عليه السلام.

ولا بد من الإشارة إلى أن "الأنعم" جمع نعمة، ولكنه جمع قلة، لأن إبراهيم - عليه السلام - مهما شكر فلن يسعه أن يشكر كل نعم الله سبحانه وتعالى، ألا ترى أن البشر لن يستطيعوا أن يحصوا نعم الله إحصاء، فكيف يمكنهم أن يشكروها كلها؟؟! (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم) (النحل: ١٨) فنحن لا نستطيع أن نحيط بنعم الله بالعد والذكر، فكيف نستطيع أن نؤدي شكر ما لا نستطيع عده؟! ومن المسلم به أننا لا نستطيع، ولذا جاء ختم الآية بقوله تعالى (إن الله لغفور رحيم)

لكن لماذا لا يستطيع الإنسان أن يحيط بنعم الله؟ لا يستطيع لأنها كثيرة، فأهل الفلك يمضون العمر في استكشاف نعم الله علينا، وكذا أهل الجيولوجيا وأهل الطب وأهل التربية، وغيرهم كثير، وما يفهمه كل في تخصصه لا يحيط به الآخرون، وإنما يعرف الناس طرفا منه، وهذا فيما نعلم، فكيف بما لا نعلم، وما لا نعلمه أعظم، لأن علمنا في علم الله لا شيء، سبحانه وتعالى!

- (إن كنتم إياه تعبدون) وجواب الشرط مقدر بما سبق، وتقديره (إن كنتم إياه تعبدون) فاشكروا نعمته.

- (إن كنتم إياه تعبدون) وفي هذا دليل على أن الخطاب للمؤمنين؛ لأن تقديم المفعول به (إياه) على الفعل والفاعل (تعبدون) للحصر، أي إن كنتم تعبدون الله - سبحانه وتعالى- وحده، وعبادة الله وحده مختصة بالمؤمنين، فالآية ليست خطابا لكفار قريش لأنهم يشركون مع الله سبحانه وتعالى، وبهذا يتبين ضعف قول من قال في تفسير (إن كنتم إياه تعبدون): "إن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادته تعالى ". وضعف هذا القول يظهر من تقديم المفعول، وهذا التقديم يدل على توحيد الله - سبحانه وتعالى - بالعبادة، ومن المعلوم أن كفار قريش لم يزعموا أنهم يوحدون الله بالعبادة حتى يقال لهم ذلك.

<<  <   >  >>