للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (٣٨)

المفردات:

- الجهد: المشقة.

- يبعث: يحيي بعد الموت.

- الأيمان: جمع يمين وهو القسم.

المعنى الإجمالي:

وتتابع الآيات بيان ألوان الكفر والجحود، وهذا اللون من الكفر لون فاقع جدا، وهو إنكار بعث الله للموتى.

وتبين الآية أن بعث الناس بعد الموت حق لا بد منه، ولكن الكفار ضالون بإنكارهم البعث بعد الموت.

المعنى التفصيلي:

- لم يأت النص "وأقسموا جهد أيمانهم" وإنما جاء نص الآية بذكر لفظ الجلالة "الله" (وأقسموا بالله جهد أيمانهم)، لأمور، منها:

الأول: ذكر لفظ الجلالة في سياق الإخبار عن القسم يدل على تغليظ القسم، وأن الكفار لم يكونوا يقسمون قسما عابرا، بل كانوا يغلظون القسم.

الثاني: فيه بيان التناقض في عقلية أهل الجاهلية ومن سار على دربهم، فهم يعظمون الله بالقسم به، ويكفرون به، بل ويشركون معه.

- (جهد أيمانهم) أي جاهدين في القسم، فهي أقسام مغلظة، يبذلون لها المشقة.

- لماذا جاء النص بـ (جهد) بفتح الجيم، وليس "جهد" بضم الجيم؟

" الجهد" بضم الجيم، هو: الطاقة والوسع، بينما "الجهد" بفتح الجيم، هو: الطاقة والوسع وزيادة على ذلك المشقة.

ولذا جاء التعبير عن الوسع والطاقة في قوله تعالى بـ (جهدهم) بالضم وليس الفتح في قوله تعالى (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) (التوبة:٧٩)

بينما عبر عن الأيمان بـ "الجهد" بالفتح في قوله تعالى (أقسموا بالله جهد أيمانهم) (المائدة:٥٣) (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) (الأنعام:١٠٩) (النور: ٥٣) (فاطر:٤٢)

والتعبير بالفتح له دلالة على أنهم لم يبذلوا الوسع فقط، بل بذلوا فوق ذلك المشقة.

فسبحان الله! كم يبذل الكفار المشقة في محاولة تشويش حقائق هذه الدين، وكم يترك كثير من المسلمين بذل الوسع - وليس المشقة - في الدفاع عن هذا الدين!

- اليمين في اللغة: اليد، وهو مستعار في الحلف والقسم من اليد؛ لما يفعله المتعاهدون من القبض على أيدي بعضهم، دلالة على توثيق العهد.

- ولكن ما هو موضوع القسم الذي اجتهد الكفار فيه؟ يبينه قوله تعالى (لا يبعث الله من يموت)، أي أقسم الكفار بالله العظيم مجتهدين في قسمهم غاية الاجتهاد حتى أصابتهم المشقة من شدة أيمانهم أن الله لن يبعث الموتى.

- و البعث في اللغة: الإرسال، وعبر به عن إحياء الموتى؛ لأنهم محبوسون بالموت عن الحياة، فإذا ما أرسلوا من موتهم دبت بهم الحياة.

- جاء النص بـ (لا يبعث الله من يموت) بذكر لفظ الجلالة، وليس "لا يبعث من يموت"؛ وذلك مبالغة من الكفار في نفي البعث بعد الموت، كأنهم يقولون: نعني بنفي البعث بعد الموت نفي بعث الله.

ونفي بعث الله للموتى نفي لأي بعث؛ لأنه إذا لم يبعث الله الموتى فمن غيره يبعثهم!

والغريب في الأمر أن هذا التنصيص على نفي بعث الله للموتى - أي بذكر لفظ الجلالة - يشعر السامع بأن الكفار يقسمون عن ثقة، كأن عندهم وحي من الله ينص على نفي البعث، ولذا نصوا بذكر لفظ الجلالة، وهذا من منهج أهل الجحود عند نفيهم حقيقة من حقائق هذا الدين، يحاولون إيهام السامع أنهم يتكلمون بثقة، وكذلك أنهم يعتمدون على مستند صحيح، ولكن أنى لهم ذلك، والحق نور لا يطفأ بأفواه هؤلاء الحاقدين!

- جاء التعبير بالمضارع (يموت) لاستحضار حالة الموت في الذهن، كأن الكفار يبينون بعد الإحياء لما يستحضرونه من صورة الموت في أذهانهم، فإن حالة الموت توقف النفس والنبض والحياة، فكيف يبعث من تعطلت أجزاء جسمه ومات؟!

- وترد عليهم الآية بأن الله سيحيي الموتى (بلى) أي سيبعث الله من يموت؛ لأن (بلى) تنفي النفي الذي قبلها، ونفي النفي إثبات، ولو كان الجواب هنا بـ "نعم" لكان المعنى: نعم لا يبعث الله من يموت؛ لأن " نعم" إثبات لما قبلها.

قال تعالى (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد) (ق: ١٥) فابتداء الخلق لم يعجز الله فكيف يعجزه الإعادة؟! والإعادة عند الناس أسهل من الابتداء، ولكن الابتداء والإعادة عند الله أمران يستويان تحت قدرة الله سبحانه وتعالى.

- (وعدا عليه حقا) أي وعد الله وعدا حق حقا، وهذا الوعد حق لا بد أن يقع.

- ضمن "وعد" معنى أوجب بقرينة حرف الجر "على" في قوله تعالى (عليه)، فصار المعنى: أوجب الله البعث على نفسه.

- ولكن لماذا هذا التضمين؟

جاء هذا التضمين لتكون الجملة بقوة جملتين، فهو وعد، وزيادة على ذلك هو أكيد لا يتخلف.

ومن أمثلة التضمين قوله تعالى (عينا يشرب بها عباد الله) (الإنسان: ٦) فالفعل يشرب يتعدى بـ "من" أي: يشرب منها عباد الله، ولكنه تعدى هنا بالباء؛ لأن الفعل "يشرب" ضمن معنى يرتوي أو يتلذذ، ودل على هذا التضمين حرف الباء، فصارت الجملة بهذا التضمين بقوة جملتين، حيث دلت الجملة على الشرب بصريح النص، ودلت على الارتواء والتلذذ بالتضمين.

- (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي لا يعلمون أن الله قادر على إحياء الموتى.

وقد يسأل سائل: إن كان الكفار لا يعلمون فلماذا يحاسبهم الله سبحانه وتعالى، مع أن الجهل عذر من الأعذار التي ترفع العذاب، قال تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (الإسراء: ١٥)؟

ولكن لا بد من العلم أن جهلهم هنا لا يعذرون به؛ لأنه ليس جهلا ناتجا عن عدم وصول الخبر إليهم، بل هو جهل ناتج عن جحودهم وإغلاقهم قلوبهم عن الإيمان، وعقولهم عن التفكير، ولذا فهذا الجهل من كسب أيديهم.

- (أكثر الناس لا يعلمون) أي أن الأكثر من الناس على الضلال، وأن المهتدين في هذه الأرض هم القلة، قال تعالى (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) (يوسف: ١٠٣)

<<  <   >  >>