للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) (٤٢)

المفردات:

- صبروا: تحملوا الشدائد.

- يتوكلون: يعتمدون.

المعنى الإجمالي:

بعد أن بينت الآية السابقة الأجر العظيم للمهاجرين في الله سبحانه، تبين هذه الآية صفة هؤلاء المهاجرين، فهم صابرون على العذاب والأذى، لم ينقادوا لما يطلبه الكفار، بل تركوا أوطانهم ومالهم وأهلهم، وما ذلك إلا لصبرهم ولتوكلهم على الله بأنه لن يضيعهم.

المعنى التفصيلي:

- (الذين صبروا) صفة للمهاجرين، ودلالة الاسم الموصول في سياق المدح هو علو الشأن.

- (الذين صبروا) جاءت في مقابل (من بعد ما ظلموا)؛ لأنهم ظلموا فما كان منهم إلا أن صبروا.

- (وعلى ربهم يتوكلون) جاءت في مقابل (والذين هاجروا في الله)؛ لأن ترك الأوطان والأعمال والأموال والعشيرة بحاجة إلى التوكل؛ لأن المهاجر يخاف الضياع والفقر والعوز، ولولا التوكل لأحجم المسلمون عن الهجرة.

- قدم الجار والمجرور (على ربهم) في قوله تعالى (وعلى ربهم يتوكلون) لقصر التوكل على الله، فهم لا يتوكلون إلا على الله سبحانه وتعالى.

- وجاء التعبير بـ (ربهم)؛ لأن الرب هو الراعي والخالق والرازق فناسب الأمر سياق التوكل.

- واعلم - بارك الله فيك - أنه لا إيمان بلا توكل، قال تعالى (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) (المائدة:٢٣).

واعلم - بارك الله فيك - أن التوكل على الله سبحانه وتعالى مؤثر في أحداث هذه الحياة، وليس كما يظن بعض الناس أن التوكل على الله يجلب الراحة النفسية للمتوكل فقط، بل زيادة على الراحة النفسية، فإن التوكل عمل قلبي له أثر في أحداث الحياة؛ قال تعالى (ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا) (الطلاق: ٣).

فالله حسب المتوكل، أي كافيه؛ كافيه لأن الله بالغ أمره، يفعل ما يريد، وليس في الوجود من شيء يريده الله ولا يكون، بل أمره نافذ واقع.

- قد يقول قائل: لماذا جاء الفعل (صبروا) ماضيا، بينما الفعل (يتوكلون) مضارعا؟

جاء الفعل (صبروا) ماضيا من باب البشارة للمؤمنين، كأن العذاب والشدة أمر مر ومضى، وأن المستقبل القادم هو مستقبل مشرق آمن.

وجاء الفعل (يتوكلون) مضارعا؛ لأن التوكل في حياة المسلم أمر متجدد في كل يوم، بل في كل ساعة، بل في كل لحظة، فلا يعمل المسلم عملا مهما دق أو عظم إلا متوكلا على الله سبحانه وتعالى.

- ولكن لماذا قدم (صبروا) على (يتوكلون)؟

قدم (صبروا) على (يتوكلون)؛ لأن تقديم الفعل الماضي على المضارع أنسب في السياق، فلو قلنا " الذين على ربهم يتوكلون وصبروا " لفقد النص جمال سياقه.

وأيضا فإن الصبر أعظم من التوكل المجرد، لأن تحمل الشدائد والمشاق لأجل الله لا يكون إلا باطمئنان القلب بعون الله، وهذا هو التوكل، فالصبر يحتوي على التوكل زيادة على ما فيه من تحمل الشدائد.

ولعظم الصبر قدم، لأن من الأنسب في سياق المدح أن يذكر الأمر الأعظم أولا، ألا ترى أننا إذا أردنا أن نمدح أحدا ذكرنا أعظم أموره أولا، وفي بعض الأوقات يكون الأمر الأعظم ماضيا، فنعرض عن ذكر الحاضر، ونعرج على الماضي لأنه أعظم، فتراهم يقولون في مدح أحدهم: فلان هو الرئيس السابق لكذا وكذا، ويشغل حاليا منصب كذا.

- ولا بد أن نعلم أن التوكل لا يصلح دون الأخذ بالأسباب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان خير من توكل على الله - سبحانه وتعالى - ولكنه لما هاجر أخذ بالأسباب، وكان في غزواته يأخذ بالأسباب، فهو من أمر الرماة أن يبقوا على الجبل في أحد، وهو من أمر بحفر الخندق، وهو من كان يخفي خبر وجهة غزوته، وهو من حاصر بني قريظة، فهو أخذ بالأسباب، ولكن مع اعتماد على الله سبحانه وتعالى، لأن الاعتماد على الله هو الأمر المؤثر بشرط أخذ ما تقدر عليه من الأسباب.

- قد يقول قائل: إذا كان الأخذ بالأسباب لازما فما فائدة التوكل؟

وللجواب عن هذا لا بد أن نعلم أننا عاجزون من دون الله سبحانه، وأن نعلم أن الأسباب لا تحقق لنا ما نريد، بل ما يحقق لنا ما نريد هو توفيق الله لهذا الأخذ بالأسباب، وكذلك قد يأخذ المتوكل بالأسباب التي لا تكفي لحدوث أمر ما، فيهيئ الله له أسبابا لم تكن في الحسبان.

ولا بد أن نعلم أن الأسباب أمر ظاهر مطلوب، ولكن الأمر النافذ الفاعل هو أمر الله، فكم ممن تعالج من مرض وما شفي، وكم ممن أنشأ تجارة وهو آخذ بالأسباب وما ربح، فلا بد من التوكل.

وإن قال قائل: توكلت على الله فلم أستفد. فعليه اتهام نفسه بأن توكله لم يكن صادقا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا) (الطلاق: ٣)

ولا بد أن نعلم - أيضا - أن أمورا قضي أمرها ولن تتغير، ولو دعونا الله أو توكلنا عليه، ومن هذا ما قضاه الله سبحانه من الأعمار، فلو أن مريضا قد قضى الله موته بهذا المرض، فإن دعاءنا لن يغير أمرا لا يريد الله تغييره، ولكننا ندعو الله ونتوكل عليه من باب العبادة.

وكذلك قد ندعو بما يخالف سنة الله في البشر، ونتوكل عليه ليحقق لنا ما يخالف هذه السنة، فليس لنا بعد هذا أن نقول إنه لم يستجب لنا.

وأضرب مثلا على ذلك، إذ خاضت جيوش العرب معارك تحت راية غير راية الإسلام، بل إن قيادات هذه الجيوش معادية للإسلام، بل إن هذه الجيوش لا تدري عن الإسلام إلا اسمه، ورغم هذا البعد عن الدين فإن سلاحهم ضعيف وتدريبهم قليل، ونبغي بعد هذا أن ينصر الله هؤلاء رغم أن سنة الله في النصر هي (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) (محمد: ٧) أي من لم ينصر دين الله فإن الله لا ينصره، ولذا سلم الله هؤلاء المعادين لدينه للأسباب المادية، فكانوا أقل قوة فهزموا.

- وقال قوم: إن ترك الأسباب من كمال التوكل، واستدلوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون (صحيح البخاري ج٥/ص٢٣٧٥) وفي رواية (صحيح البخاري ج٥/ص٢٣٩٦): لا يكتوون.

وقالوا: إن الذين يدخلون الجنة بلا حساب هم أهل التوكل الكامل، وهم من تركوا العلاج.

ولبيان معنى الحديث لا بد أن نعرف أن العلاج بالكي مكروه فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهى أمتي عن الكي (صحيح البخاري ج٥/ص٢١٥١).

ولذا فإن من كمال التوكل ترك العلاج بما هو مكروه، ولو لم يكن حراما؛ لأن ترك المكروه هو الأكمل في التوكل وغيره.

وأما التطير وهو التشاؤم، فهو من الأمور المحرمة في دين الله، ولذا فإن المتوكلين على الله لا يتشاءمون.

وأما قوله: (لا يسترقون) فلا بد أن نفهمه في ضوء سياق الحديث، حيث لا بد لأول الحديث أن يوافق آخره، وآخره أن يوافق أوله، فآخره (وعلى ربهم يتوكلون)، فكيف ينافي التوكل الرقية الشرعية، فإنه لا معارضة بينهما، ولا بد أن نعلم أن الرقية تنقسم إلى نوعين:

رقية شرعية، ورقية محرمة، فعن عوف بن مالك الأشجعي قال كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا يا رسول الله: كيف ترى في ذلك؟

فقال: اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك. (صحيح مسلم ج٤/ص١٧٢٧).

فإذا لم تناف الرقية الشرعية التوكل، فإن الرقية المقصودة في الحديث هي الرقية التي تنافي التوكل وهي الرقية المحرمة.

ولذا فليس في الحديث دليل على أن التوكل يكون بترك الأسباب.

<<  <   >  >>