للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير) (٧٠)

المفردات:

- أرذل العمر: أردأ العمر وأسوؤه.

المعنى الإجمالي:

بعد أن بينت الآيات السابقة مظاهر قدرة الله الدالة على استحقاقه للعبادة وحده، تكمل هذه الآية بيان قدرة الله بتصرفه بحياتنا، لبيان أن تصرفه هو أوضح دليل على عبوديتنا، وأنه الرب المعبود وحده.

فالله سبحانه وتعالى وحده من خلقنا، وبعدها يميتنا، وقد يبقي بعض الناس ليعمروا حتى يصلوا أسوأ مراحل العمر من الهرم والضعف الخرف، حيث يأخذ الله سبحانه ما آتاهم من علم، وكل هذا بدون إرادتنا وبدون موافقتنا؛ والله عليم بما يفعل، قدير على إمضاء ما أراد.

المعنى التفصيلي:

- (والله خلقكم) أي هو وحده سبحانه وتعالى من خلقكم، ولم يشاركه أحد في الخلق، فكيف تشركون بالله سبحانه وهو المنعم وحده؟!

ولو قلنا في غير التنزيل " خلقكم الله" لما أفادت ما أفادته الآية من التعظيم لقدرة الله، ومن تخصيص تفرده بالخلق، وأنه ليس له شريك سبحانه.

- (ثم) في قوله تعالى (ثم يتوفاكم) للتراخي؛ لأن بين الخلق والتوفي أجل.

- جاء التعبير عن الخلق بصيغة الفعل الماضي (خلقكم)، بينما جاء التعبير عن التوفي بصيغة الفعل المضارع (يتوفاكم)؛ لأن خلق المخاطبين تم وانتهى الأمر، فناسب ذلك التعبير بالماضي، بينما موتهم سيأتي تبعا، فناسب ذلك التعبير بالمضارع، والذي يدل على الحاضر والمستقبل، ويدل على تجدد موتهم واقعة بعد واقعة حتى لا يبقى منهم أحد.

- (ومنكم من يرد) جاء إسناد الفعل (يرد) بصيغة البناء لما لم يسم فاعله، بينما لم يأت إسناد فعل الخلق والتوفي بصيغة الفعل الذي لم يسم فاعله؛ وذلك لأن الرد إلى أرذل العمر شيء غير مستحسن عند البشر، بل إنهم ليتمنون الموت ويعتبرونه نعمة إذا ما خيروا بينه وبين الرد إلى أرذل العمر، فكان الأنسب إسناد فعل الرد إلى الله سبحانه بهذه الصيغة.

ولكن قد يقول قائل لماذا جاء بناء التوفي بصيغة ما لم يسم فاعله (ومنكم من يتوفى) في سورتي (الحج: ٥) و (غافر: ٦٧)؟

وللرد على هذا لا بد أن نعرف أن السياق في سورتي (الحج: ٥) و (غافر: ٦٧) هو سياق إبراز مراحل حياة الإنسان من التراب والنطفة إلى العلقة إلى خلقه طفلا، وفي هذا السياق المشرق بالحياة تأتي صيغة التوفي بصيغة ما لم يسم فاعله؛ ليناسب سياق بيان نبض الحياة في الإنسان، بينما تأتي صيغة التوفي في هذه الآية (النحل: ٧٠) بصيغة صريحة بأن الله هو الخالق المتوفي؛ لأن سياق الآية هو بيان قدرة الله في التصرف بحياتنا، وإثبات وحدانيته واستحقاقه للعبادة عن طريق بيان عبوديتنا.

وانظر في سورة (الزمر: ٤٢) كيف جاءت صيغة التوفي (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (الزمر:٤٢) لقد جاءت الصيغة بهذه القوة؛ لأن السياق سياق تقريع للمشركين.

- (أرذل العمر) أي أردؤه وأسوؤه، والعمر من جهة أنه زمن لا ينسب إليه أنه أحسن وأرذل، ولكنه ينسب إلى العمر الحسن والرداءة بالنسبة لحال صاحب العمر.

- ولكن كم هو مقدار السن التي يقال عنها (أرذل العمر)؟

قيل: خمس وسبعون، وقيل: غير ذلك، ولكن أرذل العمر لا يحد بمقدار معين، بل المقصود به بلوغ الإنسان الكبر والهرم، وإصابته بالخرف وضعف العقل مع ضعف البدن، وهذه الحال تختلف من شخص إلى شخص، ومن زمن إلى زمن، بل ومن بلاد إلى بلاد، وكل ذلك وفق مؤثرات نفسية أو جسمية أو وراثية أو غير ذلك.

- (لكي لا يعلم) قيل: اللام للتعليل، وقيل: للصيرورة.

ولام التعليل تعني أن الذي رد إلى أرذل العمر، رد لأجل أن لا يعلم شيئا مما كان علمه، ولا يقدر على أن يتعلم شيئا.

ولام الصيرورة، وهي لام العاقبة، تعني أن الذي رد إلى أرذل العمر، كانت نهايته أن لا يعلم شيئا مما كان علمه، ولا يقدر على أن يتعلم شيئا، وليس أنه رد لأجل أن لا يعلم شيئا.

ومن أمثلة لام العاقبة في القرآن قوله تعالى (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) (القصص: ٨) فآل فرعون ما التقطوا موسى عليه السلام لأجل أن يكون لهم عدوا، وإنما كان عاقبة التقاطهم هو أنه أصبح لهم عدوا، فلام العاقبة هي لام النتيجة.

ولكن كون (لكي) للتعليل أرجح؛ لأن الله سبحانه يعلم ما يفعل، وما هي نتيجة فعله، ولذا ما رد من رد إلا لأجل أن لا يعلم شيئا.

- ولكن لماذا رد من رد إلى أرذل العمر؟

تختلف الحكمة باختلاف الأشخاص، ففي حق بعض الناس هو كفارة ذنوب، وفي حق بعضها عقاب في الدنيا قبل الآخرة، وهذا الأمر شأنه شأن أي بلاء في الدنيا، فقد يصيب البلاء شخصا فيكون في حقه كفارة من الذنوب، وقد يصيب شخصا آخر فيكون عقابا له في الدنيا قبل الآخرة.

- (لا يعلم بعد علم شيئا) نكرت كلمة (علم)، لأن المقصود بالعلم هنا أي علم من العلوم التي يتعلمها البشر، بغض النظر عن تحديد ماهيته.

- في قوله تعالى (بعد علم) تأكيد لعجيب قدرته تعالى، وتنصيص على قدرة الله بنزع العلم الذي أعطاه للإنسان رغما عن أنفه، وانظر - بارك الله فيك - إلى قوله تعالى (لكي لا يعلم بعد علم شيئا) وبين قولنا في غير التنزيل " لكي لا يعلم شيئا"، وبهذه المقارنة يتضح الفرق.

- (لا يعلم بعد علم شيئا) كان هذا الإنسان المردود إلى أرذل العمر ذا علم، ولكنه أصبح عند أرذل العمر لا يعلم شيئا، وذلك بعد أن كان عالما، و (شيئا) نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تدل على العموم، أي أصبح هذا الذي فقد عقله لا يعلم أي شيء كان، وهذه الحالة أسوأ الحالات، وأرذل العمر يقصد به هذه الحالة التي يفقد فيها الإنسان عقله؛ لأن نص الآية (أرذل العمر) وليس "رذيل العمر"؛ لأن "أرذل" صيغة تفضيل، فهو أسوأ العمر، لا سيء العمر.

- ولأجل سوء أرذل العمر كان يتعوذ منه النبي صلى الله عليه وسلم دبر الصلاة، فقد روى (البخاري: ٢٦١٠) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ منهن دبر الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر.

- وكما أنه يوجد في حياة البشر مرحلة هي الأسوأ من العمر، فهناك مرحلة في حياة البشر هي الأحسن من العمر، فإذا اعتاد المسلم عمل الخير وهو حسن الصحة والحال، آتاه الله نفس الأجر إذا ساءت صحته وحاله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا (البخاري: ٢٧٧٤).

- وقد يقول قائل: ما الفرق بين التعبير بـ"ينسى" و (لا يعلم بعد علم شيئا)؟

الفرق بينهما، أن الناسي قد يتذكر، ولكن من يرد إلى أرذل العمر لا سبيل ليعود إليه علمه.

- في الآية صورتان متقابلتان تبينان قدرة الله سبحانه وتعالى، خلق وإماتة، إيتاء العلم ونزعه، وهذه الصور المتقابلة - والتي بينها بون عظيم - تدل على عظيم كمال تصرفه سبحانه وتعالى فيما يشاء كيف شاء.

- (إن الله عليم) بهذا التصريف (قدير) على فعل ما يريد.

- لماذا ذكرت كلمة (عليم) قبل ذكر كلمة (قدير)؟

ذكرت كلمة (عليم) قبل ذكر كلمة (قدير)؛ لأنه لا بد أن يسبق العلم الفعل حتى يكون صوابا.

- لماذا ذكرت هذه الخاتمة في هذه الآية (عليم قدير) دون غيرها من الخاتمات؟

ذكرت هذه الخاتمة في هذه الآية (عليم قدير) دون غيرها من الخاتمات؛ لأن في الآية بيان كمال الله، وبيان نقص العباد، فالله عليم، ولكن الإنسان ليس عليما، بل أعطاه الله الله العلم بقدرته سبحانه، وهو سبحانه قادر على أن يسترد العلم من الإنسان كما أعطاه حتى (لا يعلم بعد علم شيئا).

وختمت الآية بـ (قدير)؛ لأن الله هو وحده القدير، وأما قدرة البشر فهي عطاء من الله سبحانه يعطيه متى شاء ويسترده متى شاء (والله خلقكم ثم يتوفاكم).

<<  <   >  >>