للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون) (٧٢)

المفردات:

- حفدة: ومفردها: حافد، والحافد هو المعين، ومعناه هنا: ذرية البنات والأبناء.

المعنى الإجمالي:

وتتابع الآيات عرض نعم الله سبحانه وتعالى الدالة على أنه المستحق للعبادة وحده سبحانه وتعالى.

فالله وحده جعل لنا أزواجا لنسكن إليها، وجعل لنا من الأزواج بنين، وجعل لنا منهن أيضا أولاد الأولاد.

ورزقنا سبحانه وتعالى - مع نعمة الأزواج والذرية - الطيبات، ورغم هذه النعم فإن المشركين لم يشكروا هذه النعم، بل آمنوا بالباطل، وكفروا بالله سبحانه، وإن هذا لمن عجيب الأمر أن يكفر المنعم ويعبد الباطل.

المعنى التفصيلي:

- (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) أي هو وحده سبحانه وتعالى الذي جعل لكم من أنفسكم أزواجا، ولم يشاركه أحد في الخلق، فكيف تشركون بالله سبحانه وهو المنعم وحده؟!

ولو قلنا في غير التنزيل "وجعل الله لكم" لما أفادت ما أفادته الآية من التعظيم لقدرة الله سبحانه، ومن تخصيص تفرده بالتصرف بالخلق، وأنه ليس له شريك سبحانه.

- (جعل) لها عدة معان، ومعناها هنا هو: إيجاد شيء من شيء وتكوينه منه كما في هذه الآية (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) فالأزواج لم تخلق ابتداء بل جعلت من أنفسنا.

وتأمل معي - بارك الله فيك - في قوله تعالى (والله جعل لكم مما خلق ظلالا) (النحل: ٨١) فالله سبحانه وتعالى خلق الأشياء وخلق الظلال، ولكن خص إيجاد الظلال بـ "جعل"؛ لأنه إيجاد شيء من شيء، حيث أوجد الظلال من إيجاد الأشياء، ويطلق الخلق على الجعل أيضا، قال تعالى (خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها) (النساء: ١)

فالله سبحانه وتعالى خلق المرأة من الرجل، وبالأخص من ضلعه الأعوج، وأول امرأة في البشرية هي أمنا حواء، فهي من خلقت من ضلع أعوج، وضلع الرجل الأعوج وقتها هو آدم، فأزواجنا خلقت من ضلع أنفسنا باعتبار الأصل: آدم وحواء.

وعلى هذا فإن (من) في قوله تعالى (من أنفسكم) تبعيضية.

قال تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) (النساء: ١)

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء) (البخاري: ٣٠٨٤) (مسلم: ٢٦٧١)

- (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) ذكرت (لكم) من باب العناية والرعاية.

- الخطاب في الآية موجه إلى الرجال؛ لأنه - كما علمت بارك الله فيك - أن معنى (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) أن الله خلق حواء من آدم، فعلى هذا فالخطاب موجهة للرجال.

- لكن لما خص الرجال دون النساء في هذه الآية؟

خص الرجال دون النساء في هذه الآية؛ لأن هذه النعمة خاصة فيهم، وهذا أولا.

وثانيا - وهو الأهم - أن الجنس المؤثر في الناس المخاطبين ابتداء (العرب) هم الرجال، فهم من ينصبون الأصنام، وهم من يدعون الناس إلى عبادتها، ونساؤهم في نهاية الأمر تبع لهم، ولذا خاطبهم بما أنعم عليهم؛ لأنهم هم أصحاب القيادة والمسؤولية الكبرى، وهم من يلقى عليهم اللوم أولا.

- ومن عجيب الأمر أن أحدهم قال لي: إن زوجة كل واحد منا خلقت منه، ومن عجيب الأمر كذلك أنه استدل بالآية الكريمة (جعل لكم من أنفسكم أزواجا).

فقلت له: معنى هذه الآية أن الله خلق حواء من آدم، وذكرت له قوله تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) (النساء: ١) وبينت له معناه، ولكنه لم يقتنع.

فقلت له شيئا آخر حتى اقتنع بأن مقولته خطأ، قلت له: إذا تزوجت المرأة رجلا فهل خلقت منه؟

فقال: نعم، فقلت له: وطلقها هذا الرجل وتزوجت من بعده، فمن أي الرجلين خلقت؟ بل افترض أنها تزوجت خمس مرات، فمن أي الرجال خلقت؟

فاقتنع أن تفسيره لقوله تعالى (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) كان خطأ، ولم أذكر هذا الأمر لأجل نقاش جانبي مع أحد الناس، بل كان في المجلس أناس كثيرون ناصروا هذا الرجل، وأخبروا أن هذه المعلومة متوارثة عندهم.

- (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) قدم الجار والمجرور (من أزواجكم)؛ لأن النعمة التي امتن الله بها في الجملة الأولى هي الأزواج (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) وهذه الجملة (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) جاءت مبينة لنعمة الأزواج، فناسب تقديمها للاهتمام بها وإظهارها عليها.

وهناك فائدة أخرى لهذا التقديم وهي بيان عجيب هذه النعمة، وهو جعل الأزواج من أنفسنا، وجعل الأبناء والأحفاد من أزواجنا، ولو كان النص في غير التنزيل: "وجعل لكم أزواجا من أنفسكم" لكان الامتنان بالأزواج المجعولين من أنفسنا، بينما معنى قوله تعالى (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) فالامتنان بالأزواج مع بيان عجيب النعمة أنهم من أنفسنا.

- (وجعل لكم من أزواجكم بنين) ومعنى (بنين) أي: الأولاد الذكور، ومفردها: ابن، قال تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) (النساء: ١١) فالميراث يشمل الذكر والأنثى، ولذا أطلق القول (أولادكم) وفصل أن للذكر مثل حظ الأنثيين.

(فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون) (الصافات: ١٤٩) (أم له البنات ولكم البنون) (الطور: ٣٩) ونرى أن البنين هم الذكور، والبنات هن الإناث.

وبعض الناس يقولون: أولاد للذكر فقط، وأبناء للذكر والأنثى، علما بأن الأولاد يشملون الذكر والأنثى، وأما الأبناء فهم الذكور فقط؛ لأن مفرد أبناء "ابن"، وليس "ابنة".

- لكن لماذا وقع الامتنان بالذكور دون الإناث؟

وقع الامتنان بالذكور دون الإناث؛ لأن العرب لم يكونوا يقدرون الإناث، فلا يناسب ما هم فيه المنة عليهم بالبنات، وهذا أولا.

وثانيا: فرغم أن الله يأجر من يربي الإناث، إلا أن الذكور هم من يتخذون سندا في الحياة، ولأن الذكر هو من يفخر به في المجالس - لأمور يعرفها الجميع - فهم زينة الحياة بهذا المفهوم (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا) (الكهف: ٤٦) و"البنون" - كما قلنا آنفا - هم جمع ابن، أي الولد الذكر.

- والله سبحانه وتعالى جعل لنا أيضا حفدة، والحفدة جمع، ومفردها: حافد، والحافد هو: المعين، وأصل الحفد: السعي بالخدمة.

وقيل في تفسير "الحفدة":

- من يقوم بالخدمة أقارب كانوا أم أجانب.

- وقيل: الأختان، وهم الأصهار.

- وقيل: الأسباط، وهم: أولاد الأولاد.

والجامع بين هذه الأقوال أنهم يقومون بالخدمة ويكونون أعوانا.

والذي يظهر مناسبا للنص هو أن الحفدة هم أولاد الأولاد، ذكورا أو إناثا - كما سبق في بيان معنى الأولاد - وذلك لأمرين، الأول: أنهم أحرص على خدمة أجدادهم من غيرهم.

والثاني - وهو الأهم - أن أولاد الأولاد هم بسبب الزوجات بصورة مباشرة، وهذا يتناسب مع قوله تعالى (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة)، أكثر مما يتناسب الأصهار، أو غيرهم؛ لأن (من) في قوله تعالى (من أزواجكم) ابتدائية، أي بنين متفرعين من أزواجكم، وحفدة متفرعين من أزواجكم، لأن سياق الآية يتحدث عن نعمة الزوجات وما ينتج عنهن، فناسب أن يكون الحفدة هم أولاد الأولاد بسبب هذا التفرع.

- (ورزقكم من الطيبات) والطيبات جمع طيب، والطيب ضد الخبيث، والرزق الطيب يكون في الطعام والشراب واللباس والمسكن وغيرها.

و"من" في قوله تعالى (ورزقكم من الطيبات) تبعيضية؛ لأن الإنسان يرزق بعض الطيبات لا كلها.

- ولكن لماذا أتبعت نعمة الأزواج والأبناء والأحفاد بنعمة الرزق الطيب؟

أتبعت نعمة الأزواج والأبناء والأحفاد بنعمة الرزق الطيب؛ لأنه لا يستقيم أمر العائلة دون المال، فالعائلة والمال مكملان لبعضهما.

- (أفبالباطل يؤمنون) الهمزة في (أفبالباطل) للاستفهام، وهذا الاستفهام إنكاري، ومعناه: الإنكار على الكفار إيمانهم بالباطل؛ لأن هذا الأمر عجيب غريب.

- وقدم ذكر "الباطل" (أفبالباطل يؤمنون)، وليس " أفيؤمنون بالباطل"، زيادة في الإنكار على الكفار ما هم فيه، إذ كيف يؤمنون بشيء لا يكون الإيمان به بحال من الأحوال، وهذا بالتعبير الدارج: ألم يجد شيئا ليؤمن به إلا الباطل!!

- والباطل ضد الحق، وهو ما يعبد من دون الله سبحانه وتعالى، ولذا وقع الإنكار، إذ كيف يعبد الباطل الزائل المكذوب، وتترك عبادة الله الحق مقلب القلوب.

- (وبنعمت الله هم يكفرون) وهذا إنكار آخر معطوف على الذي سبقه، حيث إنهم يكفرون بنعمة الله سبحانه، والكلام مفهوم بدون الضمير (هم)،ولكنه جاء للتوكيد، كأنهم هم دون غيرهم من يفعل هذا.

- وتقدم ذكر (بنعمت الله) على (يكفرون) زيادة في الإنكار على الكفار ما هم فيه، وذلك لإبراز أن الإنكار متجه إلى كون الكفر بنعمة الله، وليس إلى مجرد الكفر فقط.

وانظر - بارك الله فيك - إلى الفرق بين قوله تعالى (وبنعمت الله هم يكفرون) وبين قولنا في غير التنزيل "ويكفرون بنعمة الله ".

فقولنا في غير التنزيل "ويكفرون بنعمة الله " يعني: إنكار الكفر بنعمة الله، بينما قوله تعالى (وبنعمت الله هم يكفرون) يعني: إنكار الكفر بنعمة الله، ويعني شيئا آخر، وهو: أن نعمة الله دون غيرها من الأشياء ليست محل كفر بحال من الأحوال، ولا يتصور أن يكون الكفر بنعمة الله بشكل خاص، فكيف يكفر هؤلاء بنعمة الله، وذلك بإشراكهم مع الله سبحانه.

وهذا ما يعنيه تقديم "نعمة الله" على "يكفرون"، فالاستنكار منصب على كون الكفر متجها إلى نعمة الله التي لا يتصور إنكارها، لا إلى مجرد الكفر فقط.

- لماذا قدم إنكار الإيمان بالباطل على إنكار الكفر بنعمة الله (أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون)؟

قدم إنكار الإيمان بالباطل على إنكار الكفر بنعمة الله؛ لأن الكفر بنعمة الله ناتج عن الإيمان بالباطل، حيث إنهم آمنوا بالأصنام وعبدوها، فكان إيمانهم بها وعبادتها كفر بنعمة الله عليهم؛ لأنه سبحانه وتعالى هو المستحق للعبادة وحده.

- جاء الفعلان (يؤمنون) و (يكفرون) بصيغة الفعل المضارع لا الماضي؛ للدلالة على التجدد، فإن إيمان الكفار بالباطل، وكفرهم بنعمة الله، متجدد في كل العصور والدهور، والله المستعان!

- وفي الآية التفات من الخطاب (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات) إلى الغيبة (أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون)، وسبب هذا الالتفات هو الإعراض عن الكفار بسبب ما هم فيه من الضلال، ومختصر القول أن هذا الالتفات هو التفات إعراض.

<<  <   >  >>