للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون) (٨٨)

المعنى الإجمالي:

ما زال السياق سياق تسلية للنبي صل الله عليه وسلم، حيث تخبره الآية الكريمة بأن الكفار ليسوا في مستوى واحد من العذاب، بل إن هؤلاء الذين كفروا وزادوا على كفرهم أن صدوا عن سبيل، فإنهم يا محمد سيزاد لهم عذاب آخر فوق العذاب، لأنهم ما كفروا واكتفوا، بل زادوا بأن أفسدوا في الأرض بصدهم عن دين الله.

وفي هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن أئمة الكفر وساداته سيعاقبون العقاب الأشد والأعظم.

المعنى التفصيلي:

- (الذين) الاسم الموصول يدل على العموم، و إن كانت السورة مكية، والآية نزلت بخصوص كفار مكة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذا يندرج تحت هذا اللفظ العام (الذين) كل من كفر وصد عن سبيل الله، مهما يكن جنسه أو جنسيته أو موطنه أو زمنه.

- ما دلالة البدء بالاسم الموصول (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله .. ) وليس الفعل "زدنا الذين كفروا وصدوا ... "؟

البدء بالفعل "زدنا الذين كفروا وصدوا ... " يدل على زيادة العذاب لمن كفر وصد عن سبيل الله، بينما البدء بالاسم الموصول (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون) يدل - أيضا - على زيادة العذاب لمن كفر وصد عن سبيل الله، ولكن فيه تنبيه على فئة جمعت بين الكفر والصد عن سبيل الله، والتنبيه على فئة ما في مقام بيان خزيهم، إنما هو زيادة في خزي هذه الفئة، والتنبيه على فئة ما في مقام المدح، إنما هو زيادة في المدح.

ولتقريب الصورة أضرب مثلا من أمثلة أثر التقديم والتأخير على المعنى، فهنالك فرق بين قولي: أكرمت زيدا. وبين قولي: زيد أكرمته. ففي الأولى "أكرمت زيدا"حصل التنبيه على الإكرام بداية، بينما في الثانية "زيد أكرمته" حصل التنبيه على زيد المكرم بداية.

- (كفروا وصدوا عن سبيل الله) من الكفار من وقع في جريمة واحدة، وهي الكفر فقط، ولكن العناصر النشطة عند الكفار وقعوا في جريمتين، الأولى: الكفر، والثانية: الصد عن سبيل الله، ولأنهم وقعوا في جريمتين اثنتين، وقع عليهم عذابان اثنان.

- (وصدوا) قيل: إن "صد" في الآية فعل لازم غير متعد، صدوا صدودا، أي: أعرضوا، وهذا غير صحيح، لأن الكفر إنما هو إعراض، وإنما استحقوا العذابين لأنهم كفروا أولا، وصدوا غيرهم ثانيا، فـ"صد" في الآية إنما هو فعل متعد، أي: صدوا الناس عن سبيل الله، يقال: صده عن الأمر يصده صدا.

- (وصدوا) قد يقول قائل: إن معنى "الصد" هو: "المنع"؛ لأن المنع هو: أن تحول بين الرجل وبين ما يريد، وهو خلاف الإعطاء.

فيقال له: أصبت ولكن ليس كل المعنى، فـ"الصد" هو: المنع، وزد عليه "الصرف" أيضا، ومعنى: صرف القوم فانصرفوا، أي: أرجعهم فرجعوا، إذن فـ"الصرف" يكون بالتوجيه لشيء آخر.

- (عن سبيل الله) السبيل: الطريق الذي فيه سهولة، يذكر ويؤنث، و (سبيل الله) الطريق الموصلة إلى الله سبحانه وتعالى، وهي دينه.

ويحدد معنى (سبيل الله) في السياق القرآني بالقرائن الدالة على نوعه، فعند ذكر القتل أو القتال مع (سبيل الله) فإنما هو الجهاد، وهكذا، ولولا الخوف من أن يخرج الكلام عن مقصوده، لعرضت كل الآيات التي ورد فيها ذكر (سبيل الله)، وبينت المعنى في كل موطن.

- (وصدوا عن سبيل الله) والكفار إذ يعادون دين الله فهم يمنعون الناس من الالتزام به، وزيادة على هذا يردونهم إلى غير الإسلام، يردونهم إلى العلمانية والاشتراكية والديمقراطية وغير ذلك من الضلال الذي لم ينزل الله به سلطانا، وهذا المنع للناس وهذا الصرف إنما هو ما تعبر عنه كلمة " الصد".

- ولكن لماذا ذكرت جريمة الكفر أولا ثم جريمة الصد عن سبيل الله (كفروا وصدوا)؟

ذكرت جريمة الكفر أولا ثم جريمة الصد عن سبيل الله؛ لأن وجود الكفر في الواقع يكون أولا ثم الصد، فذكر السبب ثم المسبب.

- (زدناهم) الـ"نا" للتعظيم؛ لأن أمر زيادة العذاب في الآخرة لا يكون إلا للعظيم سبحانه وتعالى.

- لماذا جاء التعبير بصيغة الماضي (زدناهم) مع أن الزيادة إنما تكون في الآخرة؟

جاء التعبير بصيغة الماضي (زدناهم) من باب التعبير عن المستقبل بالماضي دلالة على تحقق وقوعه، وأمثاله في القرآن كثير، وأذكر ما ذكرت في تفسير أول كلمة في سورة النحل (أتى)، حيث جاء التعبير بالماضي (أتى) في قوله تعالى) أتى أمر الله (وذلك لأن وضع الماضي موضع المستقبل دلالة على قرب الوقوع وعلى تأكده، كقوله تعالى:) ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة ((الأعراف:٤٤) وقوله) ونفخ في الصور ((الكهف:١٠٠) فالفعل "نادى" و"ونفخ" فعلان ماضيان يتحدثان عن أمور مستقبلية؛ للدلالة على تحقق الفعل المستقبلي كأنه وقع.

- (عذابا فوق العذاب) وهذا العذاب كله في الآخرة، لأن العذاب الأول نكرة (عذابا)؛ لأنه لم يكن خاطرا في الذهن، والعذاب الثاني معرف بالألف واللام؛ لأنه معروف في الذهن لكثرة وروده في القرآن الكريم؛ ولأنه وارد في السياق قبل عدة آيات (وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون) (٨٥)

- (بما كانوا يفسدون) الباء للسببية، أي بسبب إفسادهم استحقوا زيادة العذاب، و "ما" مصدرية، " ما يفسدون" معناها: إفسادهم.

ودلالة (كانوا) هي التأكيد على وقوع الإفساد منهم؛ لما تعنيه "كان" من الوجود.

- الصد عن سبيل الله إفساد في الأرض، ولكن أصحابه يدعون الإصلاح (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (١١) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (١٢)) (البقرة).

<<  <   >  >>