للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[نفخة الصعق]

قال عليه الصلاة والسلام: (بين النفختين أربعون قالوا: يا أبا هريرة! أربعون يوماً؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون شهراً؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت).

ما معنى (أبيت)؟ يعني: أبيت أن أسأل عن ذلك رسول الله، فعلم هذه الأربعين عند رب العالمين.

بعد أربعين يأمر الله جل وعلا إسرافيل أن ينفخ في الصور النفخة الثانية، ألا وهي نفخة الصعق، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء.

وقد اختلف أهل العلم في عدد النفخات، فمنهم من قال: ينفخ إسرافيل نفختين اثنتين؛ الأولى نفخة الفزع والصعق في آن واحد، وتبنى هذا الرأي الحافظ ابن حجر والإمام القرطبي في التذكرة وقال: إن الصعق ملازم للفزع، أي: فزعوا فزعاً ماتوا منه، ولذا فـ الحافظ والإمام القرطبي يقولان بنفختين اثنتين.

وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن كثير والإمام ابن العربي إلى أن الله يأمر إسرافيل أن ينفخ في الصور نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة البعث، وهذا هو الذي أميل إليه لأن صريح القرآن يقول ذلك، فلقد فرق الله في صريح القرآن بين نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث، قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل:٨٧].

وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:٦٨] وبعدها تكلم عن نفخة البعث فقال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:٦٨].

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ) أي: فمات كل من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، من المستثنى؟! قال بعض أهل العلم: هم الملائكة.

ومنهم من قال: بل هم جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت وحملة العرش فقط.

ومنهم من قال: هم الحور العين في جنات رب العالمين.

ومنهم من قال: هم الشهداء، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.

ومنهم من قال: نبي الله موسى عليه السلام هو المستثنى في قوله تعالى: (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) واحتجوا على ذلك بحديث صحيح رواه البخاري أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أنا أول من يرفع رأسه بعد النفخة، فإذا أنا بموسى آخذ بالعرش، فلا أدري أكان ممن أفاق قبلي أم كان ممن استثناهم الله جل وعلا؟!).

ولذا أقول: الجزم بمن استثنى الله في هذه الآية غير دقيق، فإذا كان المصطفى لم يجزم بذلك في حق نبي الله موسى، فلا ينبغي لأحد بعد المصطفى من أهل العلم قاطبة أن يجزم بمن استثناهم الله في الآية، فعلم هذا لا ينال إلا بالخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) صعق أي: مات كل حي وبقي الحي الذي لا يموت.

ورد في حديث الصور الطويل الذي رواه البيهقي والطبراني والطبري وابن أبي حاتم وغيرهم، وللأمانة العلمية التي اتفقنا عليها فإن الحديث بطوله ضعيف، ومداره على إسماعيل بن رافع، وإسماعيل بن رافع من الضعفاء كما قال علماء الجرح والتعديل، وفي هذا الحديث: (يأتي ملك الموت للملك، فيقول المَلِك لِمَلَك الموت: يا ملك الموت من بقي؟ -وهو أعلم جل جلاله- فيقول: بقي جبريل وإسرافيل وميكائيل وحملة العرش وبقيت أنا، فيقول الملك ليمت جبريل وميكائيل -لام الأمر- ليمت إسرافيل، ليمت حملة العرش، ويبقى ملك الموت، فيأتي للملك فيقول له الملك: من بقي يا ملك الموت؟ فيقول: بقيت أنا، فيقول الملك: وأنت خلق من خلقي، وخلقتك لما ترى، فمت يا ملك الموت، فيموت ويبقى الحق الذي لا يموت).

سبحان ذي الملك والملكوت! سبحان ذي العزة والجبروت! سبحان من كتب الموت على جميع الخلائق وهو الحي الباقي الذي لا يموت.

(يا ملك الموت وأنت خلق من خلقي وخلقت لما ترى فمت، فيموت ملك الموت) مات جبريل مات إسرافيل مات ميكائيل مات حملة العرش، مات الملائكة مات الملوك مات الزعماء مات الرؤساء مات الوزراء مات الفقراء مات كل حي على ظهر الأرض ولا يبقى إلا الملك، فيطوي الملك السماوات بيمينه، ويطوي الملك الأرض بشماله، فيتكلم جل جلاله في هذا السكون المهيب، فما من سائل غيره ساعتها ولا مجيب، يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟! أين المتكبرون؟! ثم يقول جل جلاله: لمن الملك اليوم؟! لمن الملك اليوم؟! لمن الملك اليوم؟! فلا يجيبه أحد، فيجيب على ذاته ويقول: لله الواحد القهار.

قال جل جلاله: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:١٥ - ١٦].

أين الظالمون؟! أين الفراعنة؟! أين الأكاسرة؟! أين القياصرة؟! أين من اغتروا بالكراسي الزائلة؟! أين من فتنوا بالمناصب الفانية؟! أين من اغتروا بالأموال والعمارات والسيارات والدولارات؟! أين الظالمون؟!! وأين التابعون لهم في الغي؟! بل أين فرعون وهامان؟ أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل يبقي الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان قال جل جلاله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧].

وقال جل جلاله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:٨٨]، مهما عشت فأنت راحل، ومهما أحببت فأنت مفارق، ومهما جمعت فأنت تارك.

فيا أخي الحبيب! يا من أجلسك الله على الكرسي، يا من هيأ الله لك المنصب! إن الكرسي زائل، وإن المنصب فانٍ، وإن الحي جل جلاله هو الباقي، فاعلم بأنك راحل فإياك أن تغتر بمنصبك، وإياك أن تفتن بكرسيك، فلا تستغل الكرسي إلا لمرضاة الله وطاعته، واعلم بأن الكرسي إما أن يقربك إلى جنة الله، وإما أن يقربك إلى النار، فاتخذ الكرسي وسيلة إلى جنة العزيز الغفار، لا إلى هذه النار، أسأل الله أن يحفظنا وإياكم من حرها.

انظر إلى من سبقك، لو دام الكرسي لغيرك والله ما وصل إليك.

أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا نسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا ينادي الملك ويقول سبحانه: أنا الملك، أين الجبارون؟!! أنا الملك، أين المتكبرون؟!! ذهبوا وهلكوا وماتوا وأفناهم رب العباد.

يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل إنها الحقيقة الكبرى التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع، وعقل كل مفكر وأديب، أنه لا بقاء إلا للحي الذي لا يموت، إنها الحقيقة التي تصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة العبودية لقهار السماوات والأرض، إنها الحقيقة التي تسربل بها طوعاً وكرهاً العصاة والطائعون، وشرب كأسها الأنبياء والمرسلون، إنها الحقيقة الكبرى في هذا الوجود بعد حقيقة التوحيد، بعد لا إله إلا الله.

فيا أيها الأحبة! إن الحياة على ظهر هذه الأرض موقوتة محدودة بأجل، ثم تأتي نهايتها حتماً، فيموت الصالحون والطالحون، يموت المجاهدون والقاعدون، يموت ذوو الاهتمامات العالية والغايات النبيلة، ويموت التافهون الحريصون على الحياة بأيِّ ثمن، الكل يموت.

{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧]، وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:٦٨].

أسأل الله جل وعلا أن يسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، إنه ولي ذلك ومولاه.

وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

<<  <  ج: ص:  >  >>