للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومرَّ عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه على قاص وهو يذكر الناس، فقال: يا مذكر، لِمَ تقنط الناس من رحمة اللَّه؟ ثم قرأ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} (١).

[ذكر أحاديث فيها نفي القنوط:]

عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم اللَّه تعالى لغفر لكم، والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء اللَّه عزّ وجلّ بقوم يخطئون ثم يستغفرون اللَّه فيغفر لهم» (٢). عن أبي أيوب الأنصاري رضي اللَّه عنه أنه قال حين حضرته الوفاة: قد كنت كتمت منكم شيئًا سمعته من رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لولا أنكم تذنبون لخلق اللَّه عزّ وجلّ قومًا يذنبون فيغفر لهم» (٣).

وقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو لم تذنبوا لجاء اللَّه تعالى بقوم يذنبون فيغفر لهم» (٤)، ثم استحث تبارك وتعالى عباده إلى المسارعة إلى التوبة، فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} إلخ، أي: ارجعوا إلى اللَّه واستسلموا له، {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} أي: بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة، {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} وهو القرآن العظيم، {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} أي: من حيث لا تعلمون ولا تشعرون، ثم قال تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} أي: يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة، ويود


(١) رواه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أيضًا.
(٢) تفرد به الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك.
(٣) أخرجه أحمد ورواه مسلم والترمذي. اهـ.
جاء في «تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي» للمباركفوري رحمه اللَّه تعالى (ج٩ ص٤١٧) ما يلي: («لولا أنكم تذنبون» أي أيها المؤمنون «لخلق اللَّه خلقًا» أي قومًا آخرين من جنسكم أو من غيركم «يذنبون فيغفر لهم». وفي رواية مسلم: «لجاء بقوم يذنبون فيستغفرون اللَّه فيغفر لهم». قال الطيبي: ليس في الحديث تسلية للمنهمكين في الذنوب كما يتوهمه أهل الغرة باللَّه تعالى، فإن الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم إنما بعثوا ليردعوا الناس من غشيان الذنوب، بل بيان لعفو اللَّه تعالى وتجاوزه عن المذنبين ليرغبوا في التوبة، والمعنى المراد من الحديث هو أن اللَّه كما أحب أن يعطي المحسنين، أحب أن يتجاوز عن المسيئين، وقد دل على ذلك غير واحد من أسمائه الغفار الحليم التواب العفو، أو لم يكن ليجعل العباد شأنًا واحدًا كالملائكة مجبولين على التنزه من الذنوب، بل يخلق فيهم من يكون بطبعه ميالاً إلى الهوى متلبسًا بما يقتضيه، ثم يكلفه التوقي عنه ويحذره عن مداناته ويعرفه التوبة بعد الابتلاء، فإن وفى فأجره على اللَّه، وإن أخطأ الطريق فالتوبة بين يديه، كذا في المرقاة). اهـ. (قل).
(٤) تفرد به أحمد. اهـ. صحيح. انظر «صحيح الجامع». (قل).

<<  <   >  >>