للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لبنة، ولا قصبة على قصبة. وقال: «ما لي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب، قال (١) تحت شجرة، ثم راح وتركها» (٢).

وقال عيسى - عليه السلام -: الدنيا قنطرة، فاعبروها ولا تعمروها.

هذا مثل واضح، فإن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة، والمهد هو الركن الأول على أول القنطرة، واللحد هو الركن الثاني على آخر القنطرة.

ومن الناس من قطع نصف القنطرة، ومن الناس من قطع ثلثيها، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها، وكيفما كان فلابد من العبور، فمن وقف يبني على القنطرة ويزينها وهو يستحث للعبور عليها، فهو في غاية الجهل والحمق.

وقيل: مثل طالب الدنيا، مثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شربًا، ازداد عطشًا حتى يقتله.

وكان بعض السلف يقول لأصحابه: انطلقوا حتى أريكم الدنيا، فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول: انظروا إلى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم.

[فصل في بيان حقيقة الدنيا والمذموم منها والمحمود]

قد سمع خلق كثير ذم الدنيا مطلقًا، فاعتقدوا أن الإشارة إلى هذه الموجودات التي خلقت للمنافع، فأعرضوا عما يصلحهم من المطاعم والمشارب.

وقد وضع اللَّه في الطباع توقان النفس إلى ما يصلحها، فكلما تاقت منعوها، ظنًا منهم أن هذا هو الزهد المراد، وجهلاً بحقوق النفس، وعلى هذا أكثر المتزهدين، وإنما فعلوا ذلك لقلة العلم، ونحن نصدع بالحق من غير محاباة فنقول:

اعلم: أن الدنيا عبارة عن أعيان موجودة للإنسان، فيها حظ، وهي الأرض وما عليها، فإن الأرض مسكن الآدمي، وما عليها ملبس ومطعم ومشرب ومنكح، وكل ذلك علف لراحلة بدنه السائر إلى اللَّه عز وجل، فإنه لا يبقى إلا بهذه المصالح، كما لا تبقى الناقة في طريق الحج إلا بما يصلحها، فمن تناول منها ما يصلحه على الوجه المأمور به مدح، ومن أخذ منها فوق الحاجة يكتنف الشره وقع في الذم، فإنه ليس للشره في تناول الدنيا


(١) من القيلولة، وهو النوم في الظهيرة.
(٢) صحيح رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والضياء - انظر «صحيح الجامع». (قل).

<<  <   >  >>