للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[أسباب الخير ثلاثة "الإيجاد والإعداد والإمداد"]

فَإِنْ أَرَدْتَ مَزِيدَ إِيضَاحٍ لِذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ أَسْبَابَ الْخَيْرِ ثَلَاثَةٌ: الْإِيجَادُ، وَالْإِعْدَادُ، وَالْإِمْدَادُ, فَإِيجَادُ هَذَا خَيْرٌ، وَهُوَ إِلَى اللَّهِ، وَكَذَلِكَ إِعْدَادُهُ وَإِمْدَادُهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ فِيهِ إِعْدَادٌ وَلَا إِمْدَادٌ حَصَلَ فِيهِ الشَّرُّ بِسَبَبِ هَذَا الْعَدَمِ الَّذِي لَيْسَ إِلَى الْفَاعِلِ، وَإِنَّمَا إِلَيْهِ ضِدُّهُ.

فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا أَمَدَّهُ إِذَا أَوْجَدَهُ؟ قِيلَ: مَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِيجَادَهُ وَإِمْدَادَهُ، وَإِنَّمَا اقْتَضَتْ إِيجَادَهُ وَتَرْكَ إِمْدَادِهِ, فَإِيجَادُهُ خَيْرٌ، وَالشَّرُّ وَقَعَ مِنْ عَدَمِ إِمْدَادِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَمَدَّ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا؟ فَهَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ، يَظُنُّ مُورِدُهُ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ أَبْلَغُ فِي الْحِكْمَةِ! وَهَذَا عَيْنُ الْجَهْلِ! بَلِ الْحِكْمَةُ فِي هَذَا التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ الَّذِي بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، وَلَيْسَ فِي خَلْقِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا تَفَاوُتٌ، فَكُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا لَيْسَ فِي خَلْقِهِ تَفَاوُتٌ، وَالتَّفَاوُتُ إِنَّمَا وَقَعَ لِأُمُورٍ عَدَمِيَّةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا الْخَلْقُ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْخَلْقِ مِنْ تَفَاوُتٍ, فَإِنِ اعْتَاصَ عَلَيْكَ هَذَا، وَلَمْ تَفْهَمْهُ حَقَّ الْفَهْمِ، فَرَاجِعْ قَوْلَ الْقَائِلِ:

إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ ... وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ١

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَرْضَى لِعَبْدِهِ شَيْئًا وَلَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ إِعَانَتَهُ عَلَيْهِ قَدْ تَسْتَلْزِمُ فَوَاتَ مَحْبُوبٍ لَهُ أَعْظَمَ مِنْ حُصُولِ تِلْكَ الطَّاعَةِ٢ الَّتِي رَضِيَهَا لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ وُقُوعُ تِلْكَ الطَّاعَةِ مِنْهُ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً هِيَ أَكْرَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِتِلْكَ الطَّاعَةِ. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التَّوْبَةِ: ٤٦] الْآيَتَيْنِ. فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ كَرِهَ انْبِعَاثَهُمْ إِلَى الْغَزْوِ مَعَ رَسُولِهِ، وَهُوَ طَاعَةٌ، فَلَمَّا كَرِهَهُ مِنْهُمْ ثَبَّطَهُمْ عَنْهُ، ثُمَّ ذكر


١ هو منسوب إلى الشاعر عمرو بن معد يكرب.
٢ قال عفيفي: ارجع في الاعتراضات والأجوبة التي ذكرها الشارح من هذا الموضع إلى قول المصنف في ص٢٠٦ وللتعمق والنظر في ذلك إلى ٢/ ١٩٨ من "المدارج".

<<  <   >  >>