هذا وإن كان يدخل فيه غير الصحابة إلا أن دخول الصحابة في هذه الآية دخول أولي.
فإذا أثر عن أحدٍ من الصحابة قول أو فعل ولم تكن فيه مخالفة صريحة لنص شرعي ولم ينقل عن أحد من الصحابة خلافه فالواجب حينئذٍ اتباعه؛ لأنه دعاء إلى طاعة الله؛ وإلا خلا ذلك العصر من ذلك الحق، وهو باطل.
5 - قوله تعالى:- {قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى} [النمل 59] قال ابن عباس ([94]):- هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
والدليل عليه قوله تعالى:- {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} [فاطر 32]
وحقيقة الاصطفاء: افتعال من التصفية. فيكون قد صفاهم من الأكدار. والخطأ من الأكدار. فيكونون مصفين منه. فمن المحال أن يحرمهم كلهم الصواب في مسألة فيفتي فيها بعضهم بالخطأ ولا يفتي فيها غيره بالصواب ويظفر فيها بالهدى من بعدهم.
ولا ينتقض هذا بما إذا اختلفوا لأن الحق لم يَعدُهُم فلا يكون قول بعضهم كدراً؛ لأن مخالفته الكدر. وبيانه يزيل كونه كدراً، بخلاف ما إذا قال بعضهم قولاً ولم يخالف فيه. فلو كان باطلاً ولم يَرُدَّهُ رادٌّ لكان حقيقة الكدر.
وهذا لأن خلاف بعضهم لبعض بمنزلة متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أموره فإنها لا تخرجه عن حقيقة الاصطفاء.
6 - أن الله تعالى شهد لهم بأنهم أوتوا العلم بقوله:- {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق} [سبأ 6].
وقوله:- {حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً} [محمد 47]
وقوله:- {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة 11].
واللام في العلم ليست للاستغراق وإنما هي للعهد:- أي العلم الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانوا قد أوتوا هذا العلم كان اتباعهم واجباً؛ ولأن من بعدهم تبع لهم في ذلك.
ولأن من المحال أن يجهل الصحابة الحق والهدى ويهتدي إليه المتأخرون.
ولأن للصحابة خاصية لا يشركهم فيها أحد فهم قد تعلموا العلم والعمل في مدرسة النبوة تحت رعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته، بعد أن وقفوا على أسرار التشريع ومقاصده وحكمه، فكانوا يجتهدون بين يديه فيقر المصيب ويصوب المخطيئ، وكانوا يسألونه عما أشكل عليهم وخفي ويحاورونه ويشاركونه الرأي؛ لذا فإنهم قد فهموا منه الكثير ووقفوا على أمور لا تدرك بالنقل والرواية عنه صلى الله عليه وسلم ([95])، فكانت لهم تلك الميزة والخاصية فكانت أقوالهم ليست كأقوال غيرهم.
7 - قوله تعالى:- {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران 110].
شهد لهم الله تعالى بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر فلو كانت الحادثة في زمانهم لم يفت فيها إلا من أخطأ منهم لم يكن أحد منهم قد أمر فيها بمعروف ولا نهى فيها عن منكر. إذ الصواب معروف بلا شك والخطأ منكر من بعض الوجوه.
ولولا ذلك لما صح التمسك بهذه الآية على كون الإجماع حجة. وإذا كان هذا باطلاً. علم أن خطأ من يعلم منهم في العلم إذا لم يخالفه غيره ممتنع. وذلك يقتضي أن قوله حجة ([96])، ولما سبق ذكره في الدليل السابق.
8 - قوله تعالى:- {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة 119]
قال غير واحد من السلف ([97]):- هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
ولا ريب أنهم أئمة الصادقين. وكل صادق بعدهم بهم يأتم في صدقه. بل حقيقة صدقه اتباعه لهم وكونه معهم.ومعلوم أن من خالفهم في شئ وإن وافقهم في غيره لم يكن معهم فيما خالفهم فيه، وحينئذٍ فيصدق عليه أنه ليس معهم فتنتفي عنه المعية المطلقة، وإن ثبت له قسط من المعية فيما وافقهم فيه.
فلا يصدق عليه أنه معهم بهذا القسط. وهذا كما نفى الله ورسوله الإيمان المطلق عن الزاني والشارب والسارق و المنتهب ([98]) بحيث لا يستحق اسم المؤمن وإن لم ينتف عنه مطلق الاسم الذي يستحق لأجله أن يقال معه شئ من الإيمان.
وهذا كما أن اسم الفقيه والعالم عند الإطلاق لا يقال لمن معه مسألة أو مسألتان من فقه وعلم، وإن قيل معه شئ من العلم. ففرق بين المعية المطلقة ومطلق المعية.
¥