2. حفظ السنة: وفي ذلك يقول في مقدمة إفادة النصيح: الحمد لله الذي جعل الإسناد خصوصة لهذه الأمة، وأثارة باقية وجُنة من التقول على نبيه ـ صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ـ واقية، واختار له من ورثة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عصابة أولي عدد وذوي عُدد للتحريف عنه نافية، وبالذب عن حوزته وافية، وللأدواء الطارئة شافية كافية، وجعلهم الورثة الذين لا يُسقطهم ولا ينقصهم الحَجْب، ولا تُغَلّق دونهم الأبواب ولا تُلَطّ الحُجْجب، وفضلهم على الخلفاء بما اختصهم به من مُجاب دعوته، ووصفهم بأنهم الذين يُحيون ما أمات الناس من سُنته. فهم أولى المومنين به لاتصال سببهم بسببه، سلسلة إسناد، أسلحة أنجاد، صفوة أمجاد، يحمون حمى الدين، وينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، كما أخبر عنهم سيد المرسلين ...
3. تحفيز الهمم إلى الاعتناء به: من ذلك ما قاله في إفادة النصيح عند ذكر قول عبد الله بن المبارك: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لأكثر المارقون الاختلاق والإنشاء، وقال كل منهم مفتريا ما شاء": فَحُلِّئَتْ عن وِرْد نميره نَقَصَةُ الأغمار الأغبياء، وحُلّيت بلؤلؤه كَمَلَة الأقمار العلماء، فَبَدار يا ذوي الهمم العليّة إلى الارتفاع لمنازلهم بَدار، وحَذار من الانخفاض عنها حَذار. فَيا رِيَّ المجتهد، ويا ظمأ المقلد. ويشهد لها عنايته بولده الذي ألف من أجله كتاب "إفادة النصيح" الذي قال عنه: وفي أيام مُقامي في هذه البلاد المغربية، وبسبتة منها الثغر المحروس، ومحل منشئي القطر المأنوس، لم أزل أحرص على التبكير بإسماع بُنَيّ محمد ـ هداه الله وبلّغ الأمل فيه ـ، وأروض حداثته على تعلم الحديث وتحفظه، وأشربه في قلبه وأمزجه بطباعه، رجاء أن يمن الله الكريم علي وعليه باتباعه، ويجعلنا من أتباعه وأشياعه.
4. تحرير الأسانيد مما شابها من الاختلاف والاختلال في الضبط والاتصال: مثلا ضبط (الفربري) قال في "إفادة النصيح" أثناء سرده لسند الجامع الصحيح: واختلف الرواة في ضبط فائها بين الفتح والكسر. والأصحّ الفتح بلدا ونسبا. ومن ينحو به نحو الأسماء العربية يكسر بلدا ونسبا. ولم يصب من قال: إن الفتح في النسب من تغيير النسبة؛ بل النسب بالفتح إلى المفتوح وبالكسر إلى المكسور عند من عربه. وبالفتح ضبطه خطا الرواة الدراة؛ وبالفتح وجدته مقصودا في البلد والنسب في صدر كتاب البخاري في النسخة العتيقة التي كتبت بمكة ـ شرفها الله ـ وقرئت وسمعت على أبي ذر، وعليها خطه. وكذلك وجدته في غير موضع بخط متقن الأندلسيين غير مدافع في زمانه: أبي بكر ابن خير رحمه الله. وكتب عليه صح صح على النسب والبلد. وقد وجدته بخطه في بعض المواضع بالكسر غير مصحح عليه ... وإشارته إلى آخر من حدث عن ابن شريح حين قال: وقد روى عنه أيضا القاضي أبو القاسم أحمد بن يزيد بن عبد الرحمن ابن بقي هو وأبوه وجده، وهو آخر من حدث عنه بالإجازة. ولم يزل على ذلك إلى أن غلبه الكبر وأقعده عن التصرف، فلزم داره واستخلف على الصلاة، ولم ينقطع الأخذ عنه إلى أن عطله الكبر والخرف فقطع، ولا أعلم أحدا حدث عنه في خرفه.
خاتمة: ثمرات عنايته بالإسناد
لكل بذرة ثمرة، إذا اعتني بها، وحافظ عليها صاحبها، وكذلك بالنسبة لابن رشيد الذي أفنى شبابه في لقاء الشيوخ والارتحال إليهم من أجل السماع أو الاستجازة، لابد أن تكون جهوده قد أثمرت ثمارا يانعة، جنية طيبة، منها:
1. تحريره لسند الجامع الصحيح. ويتمثل ذلك في كتابه الفذ "إفادة النصيح، بسند الجامع الصحيح".
2. ربط الاتصال بين أسانيد المشارقة، وأسانيد المغاربة. والدليل على ذلك في رسالته "الأربعين البلدانية" التي وزع فيها أربعينا حديثا على أربيعن شيخا من أربعين بلدا. وكذلك في الاستدعاءات التي تحمل بها خلال رحلته الحجازية.
3. إبرازه للطائف الأسانيد كالعلو؛ من ذلك ما قاله عن أبي الحسن ابن شريح: كان مع إقرائه يجلس أحيانا من النهار لإسماع الحديث، دائبا على ذلك، فسمع الناس منه كثيرا ورحلوا إليه، واعتمدوا في علو الرواية مسافة وصفة عليه. وعُمر وأسن حتى روى عنه الآباء والأبناء وأجداد والأحفاد، وألح الصغار بالكبار. ومن ذلك أيضا السند الذي سبق إيراده المتعلق بحديث "إنما بالنية"، قال عنه: وهذا السند الذي أوردنا به هذا الحديث أعلى ما يروى به مسافة في الدنيا شرقا وغربا، مع ما فيه من علو الصفة من اتصال السماع وثقة الرجال ...
4. حل بعض الإشكالات الإسنادية: مثل مسألة المحاكمة بين مذهبي البخاري ومسلم في السند المعنعن .. التي ناقش فيها أدلة الإمام مسلم، وفند ما رام به تعضيد رأيه، مناصرا في ذلك الإمام البخاري وشيخه علي بن المديني، بقوله: وأن هذا المذهب أظهر وأرجح من مذهب من اقتنع بصحة المعاصرة فقط، كما اقتنع به مسلم ـ رحمه الله ـ في مقدمة كتابه، واختاره، واعتقد صحته، وبالغ في الإنكار على من خالفه.
ولأجل هذا وغيره من الجهود المبذولة، حظي رحمه الله بالتنويه في هذا المجال من أرباب الصناعة وأهل الشأن، كأبي البركات ابن الحاج البلفيقي (ت 774هـ) القائل: وأعظم عنايته بعلم الحديث متنه وسنده ومعرفة رجاله، ولذلك كان جل أشغاله، وفيه عظم احتفاله، حتى حصل منه على غاية صده ومنتهى آماله. ولسان الدين ابن الخطيب الذي وصفه ب: الخطيب المحدث المتبحر في علوم الرواية والإسناد.
هكذا خلده التاريخ، وأشاد به، فرحمه الله، ونفعنا بعلومه وآثاره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
كتبه: د بدر العمراني في الرباط 25 ماي 2008 م