والأخرى: أن يتضمَّن عملاً لم يثبت بدليلٍ شرعيٍّ، يظن بعضُ الناس أنَّه مشروعٌ، فهذا لا يجوز العمل به .. وقد وافقه على ذلك العلامَّةُ الأصوليُّ المحقِّقُ الإمامُ أبو إسحاق الشاطبيُّ الغِرْنَاطيُّ في كتابه العظيم: ((الاعتصام)) فقد تعرَّض لهذه المسألة توضيحاً وقوَّةً بما عُرِفَ عنه من بيانٍ ناصعٍ، وبرهانٍ ساطعٍ، وعلمٍ نافعٍ، في فصل عقدة للبيان طريق الزائغين عن الصراطِ المستقيم، وذكر أنها من الكثرة بحيث لا يمكن حصرها مستدلاً على ذلك بالكتابِ والسنةِ، وأنها لا تزال تزداد على الأيام، وأنَّه يمكن أن يجد بعده استدلالاتٍ أُُخَر، لا سيما عند كثرة الجهل وقلَّةِ العلم، وبُعْدِ الناظرين فيه عن درجةِ الاجتهاد، فلا يمكن إذن حصرُها ... (ثم ذكر كلامَه، وهو قريبٌ من كلامِ شيخ الإسلام ابن تيمية المتقدِّم عرضه).
ثم قال: هذا كلُّه من كلام الإمام الشاطبيِّ، وهو يلتقي تمام الالتقاء مع كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمهما اللَّه ـ ومن الطريف أن هذا مشرقيٌّ وذاك مغربيٌّ، جمع بينهما، على بُعدِ الدارِ، المنهجُ العلميُّ الصحيحُ.
قال الشيخ الألبانيُّ: ((ليس يخفى أنهَّ من غير الميسورِ تمييز الحديث الضعيف الذي يجوز العمل به، من الذي لا يجوز العمل به، إلا على المحدثين الفقهاء بالكتاب والسنة الصحيحة، وما أقلَّهم! ولذلك فإني أُرى أنَّ القولَ بالجوازِ بالشرطين السابقين نظريٌّ غيرُ عمليٍّ بالنسبة لجاهير الناس؛ لأنه من أين لهم تمييز الحديث الضعيف من الضعيف جدًّا؟ ومن أين لهم تمييز ما يجوز العمل به منه فقهيًّا مما لا يجوز؟ فيرجع الأمر عمليًّا إلى قولِ ابن العربيِّ المتقدِّمِ: ((أنَّه لا يُعمل بالحديثِ الضعيفِ مطلقاً)). وأشار الشيخُ في الحاشية فقال معقباً على كلام ابن العربي: وهو ظاهر قول ابن حبَّانَ: ((لأنَّ ما روى الضعيف وما لم يروه في الحكم سيَّان)) انظر: ((السلسلة الضعيفة)) وتعليقي عليه (ج2ص3).
وقال في تقدمته لـ ((تمام المنة)) [ص/34]:
((اشتهر بين كثيرٍ من أهلِ العلمِ وطلابِهِ أنَّ الحديثَ الضعيفَ يجوزُ العملُ بهِ في فضائلِ الأعمالِ، ويظنُّونَ أنَّه لا خلاف في ذلك، كيف لا والنوويُّ ـ رحمه اللَّه ـ نقل الاتفاقَ عليه في أكثرِ من كتابٍ واحدٍ من كتبهِ؟ وفيما نقله نظرٌ بَيِّنٌ؛ لأنَّ الخلافَ في ذلك معروفٌ؛ فإنَّ بعضَ العلماءِ المحقِّقين على أنَّه لا يُعمل به مطلقا لا في الأحكام ولا في الفضائل.
قال الشيخ القاسمي رحمه الله في ((قواعد التحديث)) (ص 94):
((حكاه ابنُ سيدِ الناسِ في ((عيون الأثر)) عن يحيى بنِ معين ونسبه في ((فتح المُغيث)) لأبي بكرِ بنِ العربيِّ، والظاهرُ أنَّ مذهبَ البُخاريِّ ومسلمٍ ذلك أيضاً. . وهو مذهبُ ابنِ حزمٍ. .)).
قلت: وهذا هو الحقُّ الذي لا شكَّ فيه عندي لأمورٍ:
الأوَّل: أنَّ الحديثَ الضَّعيفَ إنما يُفيد الظَّنَّ المرجوحَ، ولا يجوزُ العملُ به اتفاقاً فمن أخرج من ذلك العمل بالحديث الضيف في الفضائل.
قال الشيخ القاسميُّ ـ رحمه اللَّه ـ في ((قواعد التحديث)) [ص/94]:
((لابد أن يأتي بدليلٍ وهيهاتَ)).
الثاني: أنني أفهم من قولهم: ((. . في فضائل الأعمال)) أي الأعمال التي ثبتت مشروعيتها بما تقوم الحجة به شرعاً، ويكون معه حديثٌ ضعيفٌ يسمِّى أجراً خاصاً لمن عمل به، ففي مثل هذا يعمل به في فضائل الأعمال؛ لأنَّه ليس فيه تشريعُ ذلك العملِ به، وإنما فيه بيانُ فضلٍ خاصٍّ يُرجى أن يناله العاملُ به،
وعلى هذا المعنى حمُلِ َالقولَ المذكورَ بعضُ العلماءِ كالشيخِ عليٍّ القَاري ـ رحمه اللَّهُ ـ؛ فقال في ((المِرقاة)) (2/ 381):
((قوله: إنَّ الحديثَ الضعيفَ يُعمل به في الفضائلِ، وإن لم يَعتضد إجماعاً كما قاله النوويُّ محلُّه الفضائلُ الثابتةُ من كتابٍ أو سُنَّةٍ))
¥