وقد كثر ذلك في الأزمان المتأخرة فكتب العلماء فيه كتبا فالحافظ ابن حجر كتب كتابه (اللآلئ المنثورة في الأحاديث المشهورة) ثم ألف السيوطي كتابه (الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة) وألف السخاوي كتابا عنوانه (المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة) ثم جاء تلميذه عبد الرحمن بن الديبع فاختصره في كتابه (تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث) ثم كتب العجلوني رحمه الله تعالى كتابا سماه (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس)
وما كانت هذه العناية من العلماء حتى أفردوا كتبا في ذلك إلا حماية لجناب السنة، وحرصا على الناس من الضلال، وتنقية لما يتناقلونه من أقوال، وبيانَ ما هو حديث منها وما ليس بحديث، فلا يجوز للخطيب أن ينقل ما يجري على الألسنة في خطبته لمجرد شهرته وسريانه في الناس.
ويلحق بذلك ما هو من محفوظات الخطيب، مما لم يتيقن أنه حديث؛ فقد يكون الخطيب قد حفظ في صباه حديثا أو مقولة على أنها حديث من أبيه أو جده أو معلمه أو خطيب مسجدهم أو غيرهم، ورسخ في ذهنه أنه حديث، ولم يراجعه في كبره، فلا يجدر به أن ينقله في خطبته حتى يتأكد من ثبوته.
وكثيرا ما سمعنا بعض الخطباء والوعاظ يستدلون بأحاديث مشهورة ولكنها لا تثبت، وقد يكون منها ما هو موضوع، وينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما ذكره المؤلفون في الموضوعات من دواعي وضع الأحاديث واختلاقها: القص على الناس وتذكيرهم وموعظتهم.
ومرة سمعت واعظا في إحدى المساجد الكبرى يعظ الناس على إثر ريح شديدة أصابتهم فبدأ موعظته يأمر الناس أن يقولوا (اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا) وردد ذلك عليهم، وكرر الدعاء به، مستدلا بالحديث المشهور في ذلك، وهو لا يثبت، ومبينا لهم أن الرياح في كل آيات القرآن رحمة، وأن الريح عذاب، ولم تأت مفردة في سياق الرحمة أبدا. وفي هذا الإطلاق ذهول منه عن قول الله تعالى [وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا] {يونس:22}
بل إنه يجمل بالخطيب وإن كان حافظا للحديث عارفا بدرجته أن يراجعه حال التحضير لخطبته؛ لاحتمال الوهم، أو اختلاطه عليه بحديث آخر، وليستفيد رسوخه أكثر في ذهنه، وهو بمثابة المراجعة لحفظه.
خامسا: أرى أنه ينبغي للخطيب أن يذكر صحابي الحديث ومن أخرجه في خطبته باختصار؛ فإن ذلك أدعى للثقة فيما ينقل لدى المستمعين، ثم إنه قد يكون من المصلين معه من يستفيد من ذلك بترسيخ محفوظاته من الحديث النبوي.
سادسا: التأكد من مفردات الحديث وجمله؛ فإن التصحيف والتحريف قد يقعان أثناء النسخ أو الطباعة، وقد يرويه الراوي على الخطأ؛ ولذلك اعتنى العلماء قديما وحديثا بضبط ألفاظ الحديث، وإصلاح ما به من التحريف والتصحيف.
وخصوا هذا الموضوع بكتب أفردوها فيه ككتاب تصحيفات المحدثين، وكتاب شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف، كلاهما لأبي أحمد العسكري، وكتاب إصلاح غلط المحدثين للخطابي، وكتاب تصحيح التصحيف وتحرير التحريف لصلاح الدين الصفدي، ونبهوا فيها على ما وقع لبعض الرواة أو النساخ من تصحيف وتحريف.
ومن أمثلة ذلك: ما وقع لشيخ يعرف بمحمش أجلس للتحديث بعد وفاة محمد بن يحيى الذهلي رحمه الله تعالى فحدث بحديث (يا أبا عُمير ما فعل النغير) فصحفه إلى (يا أبا عَمير ما فعل البعير) وحدث بحديث (لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس) فصحفه إلى (خرس) ([11] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=41#_ftn11)) وأخطأ ابن لهيعة في حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجر في المسجد) فحرفه إلى (احتجم في المسجد).
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى: وهذه رواية فاسدة من كل جهة، فاحش خطؤها في المتن والإسناد جميعا، وابن لهيعة المصحف في متنه المغفل في إسناده، وإنما الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجر في المسجد بخوصة أو حصير يصلي فيها. ([12] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=41#_ftn12))
¥