تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأما ما يخص قولك إن تقليد المتقدمين في التصحيح والتضعيف شبيه بعدم الخروج على المذاهب الأربعة فأقول إن الخروج على المذاهب الأربعة في ضوء الأحاديث الصحيحة التي ثبت العمل بها عند بعض السلف لا يلزم منه ترك إجماع المتقدمين، ولا ترجيح المتأخرين عليهم، فإن اتفاق المذاهب الأربعة على شيء لا يعني أبدا الإجماع، فقد يخالفهم بعض الأئمة المتقدمين، ويمكن أن يكون رأيه أقرب إلى الصواب في ضوء الأحاديث. وكل يجتهد ويستنبط حسب الإمكانية المتاحة له، وليس لأحد منهم استيعاب جميع السنن، وقد يفوت بعضهم ما يعرفه الآخر، وكلما يمضي الزمن يتوسع العالم بعلمه واستيعابه، فيستدرك اللاحق على السابق كلما تتوافر عنده آليات الاجتهاد.

والسؤال المطروح في هذه المناسبة هو هل يستطيع أحد اليوم أن يفهم من النصوص المتعلقة بالعبادات والمعاملات والعقائد ما لم يفهمه أحد من المتقدمين في العصور الأولى التي صح فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ... )؟ وهل يمكن استدراكه على كل من مضى؟ كلا ثم كلا. وهذا لا يعني بالضرورة إنكار إمكانية الاجتهاد في الأمور المستجدة فرادى أو جماعة، وهذا أمر آخر لا صلة له بالمسألة التي نحن بصددها.

نعم يمكن أن نخالف أحدا من الأئمة وحتى الأئمة الأربعة كما ورد في سؤالك، لكن يتم ذلك فقط بناء على رأي إمام آخر من المتقدمين، وبالتالي أصبح مرجحا لرأيه على رأي الأخرين لا مبدعا برأي جديد،.ثم إن المجتهد يجتهد في النصوص المتوفرة لديه، ويستنبط منها ما استطاع استنباطه، وقد يقف على ما وقف عليه غيره من الأحاديث، وإن كانوا يرون جميعا صحتها دون خلاف بينهم، لكنهم قد يختلفون في فهمها لأسباب كثيرة، ولهذا لم يحدث في التاريخ اتفاق الأئمة على خطأ ثم استدرك عليهم جميعا من جاء بعدهم. نعم حدث استدراك بعضهم على بعض، وأما الاستدراك على جميع المتقدمين بما أبدعه المتأخرون في مجال العبادات والمعاملات والعقائد فلم يحدث في التاريخ.

وقد جاء في سير أعلام النبلاء:

قال إسحاق بن راهوية إذا اجتمع الثوري والأوزاعي ومالك على أمر فهو سنة.

واستدرك عليه الذهبي بقوله:

بل السنة ما سنه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده. والإجماع هو ما أجمعت عليه علماء الأمة قديما وحديثا إجماعا ظنيا أو سكوتيا فمن شذ عن هذا الإجماع من التابعين أو تابعيهم لقول باجتهاده احتمل له، فأما من خالف الثلاثة المذكورين من كبار الأئمة فلا يسمى مخالفا للإجماع ولا للسنة، وإنما مراد إسحاق أنهم إذا اجتمعوا على مسألة فهو حق غالبا، كما نقول اليوم لا يكاد يوجد الحق فيما اتفق أئمة الاجتهاد الأربعة على خلافه، مع اعترافنا بأن اتفاقهم على مسألة لا يكون إجماع الأمة ونهاب أن نجزم في مسألة اتفقوا عليها بأن الحق في خلافها. ـ يعني في الغالب ـ.

وأما تصحيح الحديث وتضعيفه فيتوقف أيضا على الخلفية العلمية الحديثية الواسعة، وبقدر استيعاب الناقد المعلومات اللازمة والخلفيات الحديثية يستطيع الاستدراك على من أخطأ من السابقين، هذا فقط عندما كان العلم يتجه نحو التطور والصعود والتوسع، وأما عند الانحطاط والتقليد فلا يقال: نحن رجال وهم رجال. وكم ترك الأول للآخر؟. ولا ينبغي النظر إلى من سبق من جهة أنهم استدركوا وصححوا، بل لا بد أن ننظر أيضا كيف استدركوا وصححوا.

ونحن إذ ندعو إلى احترام المتقدمين وتقديم منهجهم في تصحيح الحديث وتعليله فإننا لا نقصد بذلك تعيين عدد من النقاد في عصر من العصور، لا أربعة ولا خمسة، فافترق الأمر عما ورد في سؤالك، فإن الخلاصة عدم إمكانية تصحيح المتأخر ما اتفق المتقدمون على تضعيفه في مختلف العصور، إذ لا يمكن أن يعرف هذا المتأخر ما لم يعرفه أحد من المتقدمين، لا رواية ولا نقدا. وهذا العلم إنما يأتي عن طريقهم، ولا يمكن أن يخفى على جميع النقاد في عصور مختلفة، ثم يأتي بعدهم من هو أقل علما منهم وأقل فهما، وأضيق معرفة، ليستدرك عليهم جميعا. وأما ما تفرد بتضعيفه أحد من الأئمة المتقدمين ولم يوجد له خلاف عند غيره ثم صححه أحد من المتأخرين بقوله هذا إسناد صحيح فلا يكون الأمر فيه مثل الخروج على الأئمة الأربعة، بل يسلم الأمر للمتقدم في ضوء نصوص المتأخرين أنفسهم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير