ثم هذا الاستقراء يقف صاحبه دون الجزم بصحة أفراد الراوي التي هي غاية ما يبغيه الناظر في مرويات الراوي، وهذه هي التي تُظهر النحرير من المحدثين ممن هو دونهم أو ممن هو عيال عليهم.
وبعض المتأخرين وكثير من المعاصرين يحار في الحكم على الأفراد، والمتقدمون لقوة حدسهم يزنون الراوي بأفراده.
قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله- (ت: 795هـ): «وأما أكثر الحفاظ المتقنين، فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه (إنه لا يتابع عليه)، ويجعلون ذلك علة فيه» [شرح علل الترمذي (1/ 352)].
والمتقدمون أيضًا يُذاكرون الراوي في حديثه، ويشافهونه فيتبين لهم حاله، وهذا ما يُعرف بالمذاكرة.
وربما امتحنوا الراوي في أحاديثه مرة أخرى أو مرات، امتحانًا لجودة حفظ الراوي، ومذاكرة لتلك الأحاديث نفسها.
وكانوا أيضًا يعرضون حديث الراوي على أحاديث الثقات، لينظروا هل أحاديثه موافقة لأحاديثهم أو مخالفة لهم، ويحصل لهم بسبب ذلك العلم بمقدار ما أصاب فيه أو أخطأ من الأحاديث، ويُحصون ذلك إحصاءً، فترى أحدهم يذكر مذاكرته للراوي، وعدد الأحاديث التي ذاكره فيها، وعدد ما أخطأ فيه وأصاب.
فهذا المعيار والميزان لا يعرفه إلا أولئك، فلا أحد من المتأخرين يمكنه أن يزن راويًا بذلك الميزان، وذلك لأن المتقدم أدرك الراوة، والمتأخر إنما يأخذ بما آل إليه الميزان، فالخبر ليس كالمعاينة، فحساسية من قام بالوزن ليست كمن أُخبر بالوزن، فتأمل ذلك.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- (ت: 852هـ): «أولئك إنما أثنوا بما شاهدوا ووصفوا ما علموا بخلاف من بعدهم، فإن ثناءهم ووصفهم مبني على الاعتماد على ما نُقل إليهم، وبين المقامين فرق ظاهر، وليس العيان كالخبر» [هدي الساري ص485].
وبسبب هذا المعيار الدقيق فإن المتقدم يعرف ما أخطأ فيه الثقة، ولولا ما حصل من مذاكرة المتقدم، وما يترتب عليها من كشف ما أخطأ فيه الثقة، لجاء المتأخر وحكم بقبول كل مروياته لأنه ثقة.
قال الإما مسلم -رحمه الله- (ت: 261هـ): «وقد يكون من ثقات المحدثين من يضعف روايته عن بعض رجاله الذين حمل عنهم» [التمييز ص217. انظر لزامًا (الثقات الذين ضُعفوا في بعض شيوخهم) للدكتور صالح بن حامد الرفاعي].
وكذلك الضعيف عرف المتقدمون ما حفظه ووافق فيه الثقات، ولولا ذلك لجاء المتأخر، وحكم بضعف كل مروياته لأنه ضعيف.
ولذلك روى البخاري في صحيحه لبعض من تُكلم فيه ممن تميز صحيح حديثه من سقيمه، ومن لم تتميز أحاديثه تركه.
قال البخاري -رحمه الله- (ت: 256هـ): «ابن أبي ليلى هو صدوق، ولا أروي عنه شيئًا، لأنه لا يُدرى صحيح حديثه من سقيمه، وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئًا» [جامع الترمذي (2/ 199)].
وبهذا تعرف جناية البعض على أحاديث الصحيحين أو أحدهما، في رد الحديث المروي من طريق المتكلم فيه.
ومما ينبغي أن يعلم أن رواية البخاري ومسلم للراوي تعديل له، وهو تعديل فوق تعديل الراوي بمجرد توثيق الأئمة له، فهو توثيق وزيادة، والزيادة هي إجماع الأمة على قبول ذلك العمل، فتنبه.
قال الحافظ ابن دقيق العيد -رحمه الله- (ت: 702هـ): «ولمعرفة كون الراوي ثقة طرق منها: إيراد أصحاب التواريخ ألفاظ المزكين في الكتب التي صنفت على أسماء الرجال، ككتاب التاريخ، وابن أبي حاتم، وغيرهما.
ومنها تخريج الشيخين أو أحدهما في الصحيح (للراوي)، محتجين به. وهذه درجة عالية، لما فيها من الزيادة على الأول، وهو إطباق جمهور الأمة أو كلهم على تسمية الكتابين بالصحيحين، والرجوع إلى حكم الشيخين بالصحة.
وهذا معنى لم يحصل لغير من خُرِّج عنه في الصحيح، فهو بمثابة إطباق الأمة أو أكثرهم على تعديل من ذكر فيها» [الاقتراح في بيان الاصطلاح ص282 - 283].
ومن المعلوم المقرر أن بلدي الراوي أعلم به من غيره، فالحجازي أعلم برجال المدينة، والعراقي أعلم برجال البصرة والكوفة، والمصري أعلم بأهل مصر، والشامي أعلم برجال الشام، وهكذا.
فهذا الحافظ عبدالرحمن بن إبراهيم الدمشقي الملقب بدحيم (ت: 245هـ) له اختصاص بالرواة الشاميين ما ليس لغيره من أئمة الجرح والتعديل الحجازيين أو العراقيين، قال عنه الحافظ أبو يعلى الخليلي -رحمه الله- (ت: 446هـ): «ويُعتمد عليه في تعديل شيوخ الشام وجرحهم» [الإرشاد في معرفة علماء الحديث (1/ 450)].
¥