تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وكان الواحد من أئمة الجرح والتعديل يحيل على من هو أعلم منه من أقرانه إذا سئل عن بعض الرواة.

فإذا كان بلدي الراوي مقدمًا على غيره من أهل طبقته، فكذلك من عاصر الرواة، أولى وأحرى بالتقديم ممن جاء بعدهم؟!

قال ابن محرز: وسمعت يحيى وسئل عن (داود بن عمرو الضبي) فقال: لا أعرفه، من أين هذا؟ قلت: ينزل المدينة. قال: مدينتنا هذه أو مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ قلت: مدينة أبي جعفر. قال: عمن يُحدث؟ قلت: عن منصور بن الأسود، وصالح بن عُمر، ونافع بن عمر، فقال: هذا شيخ كبير، من أين هو؟ قلت: من آل المسيب. فقال: قد كان لهؤلاء نَفْسين متقشفين، أحدهما يتصدق والآخر يبيع القَصَب، لا أعرفه، أما لهذا أحد يعرفه؟ قلت: بلى، بلغني عن سَعْدويه أنه سئل عنه فقال: ذاك المشؤوم ما حَدّث بعد، وعرفه فقال: (سَعْدويه) أعرف بمن كان يطلب الحديث معه منا. ثم بلغني عن يحيى بن معين بعد، أو سمعته وسئل عنه فقال: لا بأس به، وبلغني أن أن يحيى سأل سعدوية عنه فحمده [معرفة الرجال ليحيى بن معين رواية ابن محرز (1/ 74 - رقم 193)].

وبهذا تعرف الخلل الذي دخل على المتأخرين ممن التفت عن أحكام أئمة الجرح والتعديل في معاصريهم من الرواة، وعوّل على كلام من لم يدركهم من أمثال أبي محمد ابن حزم، أو أبي عمر ابن عبدالبر.

فهذا أبو محمد عبدالحق الإشبيلي -رحمه الله- (ت: 582هـ) لما ساق حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف».

قال بعده: «عمارة بن غزية وثقه أحمد بن حنبل، وأبو زرعة، وقال فيه أبو حاتم ويحيى بن معين: صدوق صالح، وقد ضعفه بعض المتأخرين» [الأحكام الوسطى (2/ 187)].

وهذا عمل غير سديد، لذلك تتبعه أبو الحسن ابن القطان الفاسي -رحمه الله- (ت: 628هـ) بقوله: «وهو تعسف على عمارة بن غزية، فإنه ثقة عندهم، مخرج حديثه في الصحيح، وممن وثقه أيضا الكوفي، وقال النسائي: ليس به بأس.

ولا أعلم أحدًا ضعفه إلا ابن حزم، قال فيه في كتاب الإيصال: ضعيف. ذكره في الزكاة في غير هذا الحديث.

وأراه مَعْنيَّ أبي محمد ببعض المتأخرين، وإن هذا لعجب أن يترك فيه أقوال معاصريه أو من هو أقرب إلى عصره، ويحكي فيه عمن لم يشاهده، ولا قارب ذلك ما لا تقوم له عليه حجة» [الوهم والإيهام (5/ 569)].

وبهذا يظهر لك الخلل الذي لحق بعض المحققين في زماننا من التعويل على كتب المتأخرين والاستغناء بمجرد ذلك عن كتب المتقدمين في الحكم على الرواة، فضلاً عن عدم تلمح بعض أولئك لبعض التصرفات التي وقعت من المتأخرين في نقل عبارات المتقدمين.

قال العلامة عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- (ت: 1386هـ): «أصحاب الكتب كثيرًا ما يتصرفون في عبارات الأئمة بقصد الاختصار أو غيره، وربما يُخل ذلك بالمعنى فينبغي أن يراجع عدة كتب، فإذا وجد اختلافًا بحث عن العبارة الأصلية ليبني عليها» [التنكيل (1/ 67)].

وإذا كنت ممن مارس قراءة كتب المتأخرين في الرجال، فإنك تجد بعضهم يستدرك على بعض في منقولاته عن المتقدمين، ويبين وجه التصرف في عبارات القوم.

فعلاء الدين مغلطاي -رحمه الله- (ت: 762هـ) في ترجمته لإبراهيم بن أبي عبلة العقيلي قال: «ذكر المزي أن النسائي قال فيه: ثقة، والذي رأيت في كتاب (التمييز): ليس به بأس. وفي نسخة أخرى: لا بأس به.

وفي كتاب ابن أبي حاتم عن أبيه: رأى ابن عمر. وكذا قاله البستي. قال الرازي: وروى عن واثلة بن الأسقع، وهو صدوق ثقة.

والذي نقله عنه المزي: صدوق، غير جيد لثبوته كما ذكرته في عامة النسخ، وكأن الشيخ تبع ابن عساكر، فإنه كذلك ذكره عن أبي حاتم» [إكمال تهذيب الكمال (1/ 249)].

ولست بصدد المحاكمة بين المزي ومغلطاي، ولكن المقصود هو التنبيه إلى ما حصل من الاختلاف عند المتأخرين في حكاية عبارات المتقدمين في الجرح والتعديل.

وأعجب من هذا من يكون معوله مختصرات المتأخرين فقط، فتراه إذا أراد الكشف عن حال الراوي عمد إلى كاشف الذهبي أو تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني، فالتزم ما فيهما أو أحدهما دون النظر في كتب التراجم للمتقدمين.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير