ـ[محمد بن عبدالله]ــــــــ[27 - 10 - 08, 10:09 م]ـ
سادسًا: ضعف العلم بالقرائن المعدول بسببها عن القواعد الكلية:
من المعلوم أن لكل حديث قرائن تحتف به، يجد المحدث معها ضرورة في الأخذ بها، وإن اضطر معها إلى إهمال ما يستعمله عادةً من القواعد.
وهذه القرائن عند المتقدمين بمنزلة القواعد والبيّنات، وهي عند المتأخرين خفية وغامضة [قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «قرائن الأحوال في الغالب لا يمكن نقلها» شرح العمدة كتاب الصيام (1/ 97)]، تعكّر عليهم قواعدهم المرعية، ويبقى بعضهم تنازعه نفسه في تقديمها على المعهود من القواعد، فيلزم تلك القواعد، أو يقضي بما قضى به الأولون تحسينًا للظن بهم، أو هيبةً لهم، لكن لن يصل المتأخر بحال إلى درجة القناعة التي وصل إليها المتقدم.
والمتأخر ينظر للحديث بعين القواعد المرعية، فإذا لم يجد أو لم يقع على إفصاح لمتقدم عن المرجحات المحتفة بذلك الحديث أمضى تلك القواعد، ولو قرع سمعه حكم المتقدمين، ويغفل عن هذا الصارف الذي لا يعلمه، فيجعله بمنزلة المعدوم لعدم الإفصاح به من متقدم أو عدم الوقوف عليه، ولا يُقدِّر لرجله الخطوة، فلا تراه يُحجم عن مخالفة المتقدم.
قال علامة اليمن ومحدثها مقبل بن هادي الوادعي -رحمه الله- (ت: 1422هـ): «وقد تقصر عبارة المعلل منهم، فلا يفصح بما استقر في نفسه من ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى، كما في نقد الصيرفي سواء، فمتى وجدنا حديثًا قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله، فالأولى اتباعه في ذلك، نتبعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه» [مقدمة أحاديث معلة ظاهرها الصحة ص17].
وقد بين العلماء كيف يعدل الأئمة عن الكليات لتلك القرائن حتى ينتبه المتأخر، وتنتفي عنه الحيرة، ويعلم أن القوم عن علم عدلوا إلى تلك القرائن.
قال أبو عبدالله محمد بن رُشيد الفهري (ت: 721هـ): «والحكم على الكليات بحكم الجزئيات لا يطرد، فقد يكون لكل حديث حكم يخصه، فيطلع فيه على ما يُفهم اللقاء أو السماع، ويثير ظنًا خاصًا في صحة ذلك الحديث، فيصحح اعتمادًا على ذلك لا من مجرد العنعنة» [السنن الأبين ص136، 137].
وبهذا يتبين لك كيف يعلل جماعة من المتقدمين بعض الأحاديث دون أن يذكروا لها علة، وربما سُئلوا عن العلة، فكان جوابهم أنهم لا يعرفون لها علة [هم يعرفون أنه معلول، لكن تعيين العلة يحتاج إلى أمور أخرى، كالاطلاع على أصول الرواة، ولا بد هنا من التنبيه إلى أن أولئك المتقدمين يعللون أحيانًا بعلل غير قادحة، قال العلامة عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله-: «ابن المديني، والبخاري، وأبو حاتم، وغيرهم، فإن لهم عللاً ليس كل منها قادحة حيث وقعت، ولكنها تقدح إذا وقعت في خبر تحقق أنه منكر، وهذا من أسرار هذا الفن» الأنوار الكاشفة ص297].
فهذا الحدس الذي عند المتقدمين لا يكاد يشاركهم فيه أحد، فإنه يعزّ أن تجد مثل هذا الإعلال عند المتأخرين.
وأما سكوت بعض المتأخرين عن إظهار علل بعض الأحاديث التي أعلوها، فإنما هو اختصارًا، أو لأن العلة أظهر من أن يُنبه عليها.
قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن حديث رواه بقية عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يكن يرى بالقز والحرير للنساء بأسًا.
فقال أبو زرعة: «هذا حديث منكر». قلت: تعرف له علة؟ قال: «لا» [العلل لابن أبي حاتم (1/ 488 - رقم 1462)].
وكذلك تجد المتقدمين يذكرون الصواب في الحديث، ثم من أي الرواة وقع الخلل، فهذه وسيلة، والغاية قد حصلت.
قال المروذي: ذكرت له -يعني: الإمام أحمد- حديث الحسين الجعفي عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر: أسلم سالمها الله, فأنكره إنكارًا شديدًا، وقال: «هذا عبد الله بن دينار عن ابن عمر. انظر الوهم مِن قِبَل مَن هو؟» [العلل ومعرفة الرجال عن الإمام أحمد بن حنبل رواية المروذي (ص148 - 148 - رقم 264)].
قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي -رحمه الله- يقول: جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي من أهل الفهم منهم، ومعه دفتر فعرضه علي، فقلت في بعضها: هذا حديث خطأ قد دخل لصاحبه حديث في حديث، وقلت في بعضه: هذا حديث باطل، وقلت في بعضه: هذا حديث منكر، وقلت في بعضه: هذا حديث كذب، وسائر ذلك أحاديث صحاح.
¥