قال العلامة عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- (ت: 1386هـ): «إذا استنكر الأئمة المتحققون المتن، وكان ظاهر السند الصحة، فإنهم يتطلبون له علة، فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقًا حيث وقعت، أعلوه بعلة ليست بقادحة مطلقًا، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذلك المنكر».
ثم قال: «وبهذا يتبين أن ما يقع ممن دونهم من التعقب بأن تلك العلة غير قادحة، وأنهم قد صححوا ما لا يحصى من الأحاديث، مع وجودها فيها، إنما هو غفلة عما تقدم من الفرق، اللهم إلا أن يثبت المتعقب أن الخبر غير منكر» [مقدمة تحقيق الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص8 - 9، وانظر الأمثلة التي ساقها].
ـ[محمد بن عبدالله]ــــــــ[27 - 10 - 08, 10:09 م]ـ
سابعًا: الشيوخ غير الشيوخ، والمذاكرة غير المذاكرة، والرحلة غير الرحلة:
استفاد كثير من طلبة العلم معرفة علل الأحاديث من خلال إدمان القراءة في كتب العلل، وما كُتب من كتب المصطلح والتخريج لتقريب هذا العلم وتسهيل فهمه.
وكان الناس فيما مضى يرحلون لطلب هذا العلم، ويذاكرون أئمة الشأن، ومهما اجتهد المتأخر في طلب هذه الأسباب كلها لتحصيل هذا العلم، فلن يبلغ شأو المتقدمين.
فشتان بين من يأخذ عن صاحب الصنعة، وبين من يأخذ عمن أخذ عنهم، وشتان بين من يأخذ عن صاحب الصنعة، وبين من اجتهد في تعلم الصنعة من خلال قراءة كتاب يرشد إلى الصنعة.
فإذا قارنت بين المتقدمين والمتأخرين فلا تغفل عن هذا، فالشيوخ غير الشيوخ، والمذاكرة غير المذاكرة، والرحلة غير الرحلة.
وهذا العلامة عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي أخذ علم الحديث مذ عقل، وفطمه والده بلبن الجرح والتعديل، وجرى علم العلل منه مجرى الدم، ثم مع هذا ذاكر أبا زرعة الرازي، ولم يكتف بذلك حتى رحل وأدرك المشايخ الكبار، فمن يتهيأ له مثل ما تهيأ لعبدالرحمن؟!
قال قوام السنة أبو القاسم الأصبهاني: أخبرنا علي بن إبراهيم، قال: سمعت أبا بكر محمد بن عبدالله البغدادي بمكة يقول: كان من منّة الله على عبدالرحمن أنه ولد بين قماطر العلم والروايات، وتربى بالمذاكرات بين أبيه وأبي زرعة، فكانا يزقانه كما يزق الفرخ الصغير، ويعنيان به، فاجتمع له مع جوهر نفسه كثرة عنايتهما، ثم تمت النعمة برحلته مع أبيه، فأدرك الإسناد وثقات الشيوخ بالحجاز والعراق والشام والثغور، وسمع بأنبجانة حتى عرف الصحيح من السقيم، وترعرع في ذلك، ثم كانت رحلته الثانية بنفسه بعد تمكن معرفته، يُعرف له ذلك، ويُقدّم لحسن فهمه وديانته وقديم سلفه» [سير السلف الصالحين (4/ 1233)].
فكان الرجل منهم مع إمامته في العلم، لا ينفرد في الحكم على الحديث دون مشاورة واستئناس برأي الأكابر من فرسان علم العلل.
قال أبو زرعة الدمشقي: حدثني أحمد بن أبي الحواري قال: حدثنا الوليد بن مسلم يقول: [سمعت الأوزاعي يقول:] «كنا نسمع الحديث، فنعرضه على أصحابنا، كما يُعرض الدرهم الزائف، فما عرفوا منه أخذنا، وما أنكروا تركنا» [تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/ 265 - رقم 377)].
وإنما قصدت إلى ذكر تلك الوجوه التي قصر بها المتأخرون عن إدراك درجة المتقدمين في الإمامة في علم الحديث، حتى يؤم القوم أعلمهم بسنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
قال الإمام مسلم -رحمه الله- (ت: 261هـ): «واعلم رحمك الله أن صناعة الحديث، ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم، إنما هي لأهل الحديث خاصة، لأنهم الحفاظ لروايات الناس، العارفين بها دون غيرهم.
إذ الأصل الذي يعتمدون لأديانهم السنن والآثار المنقولة، من عصر إلى عصر من لدن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عصرنا هذا، فلا سبيل لمن نابذهم من الناس، وخالفهم في المذهب، إلى معرفة الحديث ومعرفة الرجال من علماء الأمصار فيما مضى من الأعصار، من نقل الأخبار وحمال الآثار. وأهل الحديث هم الذين يعرفونهم ويميزونهم حتى ينزلوهم منازلهم في التعديل والتجريح.
وإنما اقتصصنا هذا الكلام، لكي نثبته ممن جهل مذهب أهل الحديث ممن يريد التعلم والتنبه على تثبيت الرجال وتضعيفهم فيعرف ما الشواهد عندهم، والدلائل التي بها ثبتوا الناقل للخبر من نقله، أو سقطوا من أسقطوا منهم» [التمييز ص218 - 219].
¥