ونقل ابن أبي حاتم عن محمود بن إبراهيم بن سميع، أنَّه قال: سمعت أحمد بن صالح (13) يقول: ((معرفة الحديث بمنزلة معرفة الذهب – والشَّبَه، فإنَّ الجوهري إنما يعرفة أهله، وليس للبصير فيه حجة إذا قيل له: كيف قلت: إنَّ هذا بائن؟! – يعني: الجيد أو الرديء)) (14) لذا فإنَّ وجود العارفين في فن العلل بين العلماء عزيز، قال ابن رجب: ((وقد ذكرنا ... شرف علم العلل و عزته، وأنَّ أهله المتحققين به أفراد يسيرة من بين الحفاظ وأهل الحديث، وقد قال أبو عبد الله بن منده الحافظ: إنَّما خص الله بمعرفة هذه الأخبار نفراً يسيراً من كثير ممن يدّعي علم الحديث)) (15).
وقال الحافظ ابن حجر: ((وهو من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله تعالى فهماً ثاقباً، وحفظاً واسعاً، ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية بالأسانيد والمتون؛ ولهذا لم يتكلم فيه إلا قليل من أهل هذا الشأن: كعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ويعقوب بن شيبة، وأبي حاتم، وأبي زرعة، والدارقطني ... )) (16).
وليس يلزم كشف العلة لأول وهلة ولا لثانيها ولا ولا .. يقول الخطيب: ((فمن الأحاديث ما تخفى علته، فلا يوقف عليها إلا بعد النظر الشديد، ومُضِيِّ الزمن البعيد)) (17). وأسند عن علي بن المديني، قال: ((ربما (18) أدركت علة حديث بعد أربعين سنة)) (19).
بل ربما يكشف العالم ما خفي على من هو أعلم منه، كالدارقطني، وأبي علي الجياني، وأبي مسعود الدمشقي، وأبي الحسن بن القطان، وابن تيمية، وابن القيم، وابن حجر، وغيرهم من أئمة هذا الشأن، فقد تعقّبوا البخاري ومسلماً - وهما من هما في الحفظ والإتقان، بل وعلو الكعب في علم العلل عينه - في كثير من أحاديث صحيحيهما وبينوا عللها (20) ... أو قد يخالف ما قاله هو نفسه، كما حصل لأبي حاتم الرازي حين سأله ابنه عن حديث ابن صائد أهو عن جابر أم عن ابن مسعود؟ قال: ((عبد الله أصح، لو كان عن جابر، كان متصلاً. قلت: كيف كان؟ قال: لأنَّ أبا نضرة قد أدرك جابراً، ولم يدرك ابن مسعود، وابن مسعود قديم الموت. وسألت أبي مرة أخرى عن هذا الحديث. فقال: يحيى القطان ومعتمر وغيرهما، يقولون: عن التيمي، عن أبي نضرة، عن جابر، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو أشبه بالصواب)) (21).
وقد يتوقف الناقد في حديث ما؛ لخفاء علته، وفي نفسه حجج للقبول والرد ولكن ليس له حجة، قال السخاوي: ((يعني: يعبِّر بها غالباً، وإلا ففي نفسه حجج للقبول وللدفع)) (22)، وقال ابن حجر: ((وقد تقصر عبارة المعلل منهم، فلا يفصح بما استقر في نفسه من ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى، كما في نقد الصيرفي سواء)) (23).
من هذا العرض تتبين أهمية هذا العلم " علل الحديث "؛ لارتباطه بالحديث النبوي أولاً؛ ولأنَّه الفيصل بين الصحيح الذي ظاهره وباطنه السلامة وغيره.
موضوعه: ليس كل الأحاديث ظاهرها السلامة، ولا كل علة خفية، فمن الأحاديث علتها ظاهرة جلية، وهذه الأوصاف بحديث الضعيف ألصق، وليست من علم العلل في شيء، ومع ذلك وجدنا بعض العلماء قد أطلق العلة على الخفي منها والجلي، واستعمال اللفظ بمعناه العام من باب التوسع.
أما الحديث المعل فهو ما اجتمع فيه ركنا العلة، وهذا لا يكون سوى في أحاديث الثقات؛ لأنَّ حديث الضعيف خطؤه بَيّن يتصدى له الناقد، وفق قواعد معلومة، أما أحاديث الثقات فهي موضوع علم العلل وميدانه بمعناه الدقيق، ولا يتصدى لها إلا جهابذة النقاد.
وهذا النوع من النقد أوسع من الجرح والتعديل؛ لأنَّه يواكب الثقة في حله وترحاله، وأحاديثه عن كل شيخ من شيوخه، ومتى ضبط؟ ومتى نسي؟ وكيف تحمّل؟ وكيف أدَّى (24)؟
إذن علم العلل يبحث عن أوهام الرواة الثقات، ويعمل على تمحيص أحاديثهم وتمييزها، وكشف ما يعتريها من خطأ، إذ ليس يسلم من الخطأ أحد.
وهنا سؤال يطرح نفسه، هل بنا اليوم حاجة إلى علم العلل؟
¥