وقد اعتنى أبو داود بتصنيف السنن عناية كبيرة، حيث انتقاها من خمسمائة ألف حديث، كان يذاكر بمائة ألف منها، قال أبو داود: "كتبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب - يعني: كتاب السنن -، جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه، وما يقاربه" [تاريخ بغداد (9/ 57). طبقات الحنابلة (1/ 431). تاريخ دمشق (22/ 196). شروط الأئمة الستة (68). السير (13/ 203). البدر المنير (1/ 299). ختم سنن أبي داود لعبد الله بن سالم البصري (65)].
وقد اجتهد في إخراج أصح ما عنده في الباب [رسالة أبي داود إلى أهل مكة (22و26). البدر المنير (1/ 300)].
قال أبو داود: " ما كان في كتابي من حديث فيه وَهَنٌ شديد فقد بيَّنته، وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح، وبعضها أصح من بعض " [رسالة أبي داود إلى أهل مكة (27). البدر المنير (1/ 300). النفح الشذي (1/ 24). التقييد والإيضاح (52). تدريب الراوي (1/ 167). وانظر: رسالة أبي داود إلى أهل مكة (25)]
قال الذهبي في السير (13/ 214): " قلت: فقد وفَّى رحمه الله بذلك بحسب اجتهاده، وبيَّن ما ضعفُه شديدٌ، ووهنُه غير محتمل، وكاسَرَ عن ما ضعفه خفيف محتمل، فلا يلزم من سكوته والحالة هذه عن الحديث أن يكون حسناً عنده، ولا سيما إذا حكمنا على حد الحسن باصطلاحنا المولَّد الحادث، الذي هو في عرف السلف يعود إلى قسم من أقسام الصحيح الذي يجب العمل به عند جمهور العلماء، أو الذي يرغب عنه أبو عبد الله البخاري ويمشيه مسلم وبالعكس، فهو داخل في أداني مراتب الصحة، فإنه لو انحط عن ذلك لخرج عن الاحتجاج ولبقي متجاذباً بين الضعف والحسن.
فكتاب أبي داود أعلى ما فيه من الثابت: ما أخرجه الشيخان، وذلك نحو من شطر الكتاب، ثم يليه: ما أخرجه أحد الشيخين ورغب عنه الآخر، ثم يليه: ما رغبا عنه وكان إسناده جيداً سالماً من علة وشذوذ، ثم يليه: ما كان إسناده صالحاً وقبله العلماء لمجيئه من وجهين لينين فصاعداً يعضد كل إسناد منهما الآخر، ثم يليه: ما ضعُف إسناده لنقص حفظ راويه فمثل هذا يمشيه أبو داود ويسكت عنه غالباً، ثم يليه: ما كان بَيِّن الضعف من جهة راويه فهذا لا يسكت عنه بل يوهنه غالباً، وقد يسكت عنه بحسب شهرته ونكارته، والله أعلم " [وانظر: تاريخ الإسلام (20/ 360)].
ولابن حجر في تفسير عبارة أبي داود كلام نفيس أسوقه بتمامه لفائدته، فإنه يغني عن كلام كثير غيره، قال في النكت (1/ 435 - 445): " وفي قول أبي داود: " وما كان فيه وهن شديد بينته ": ما يُفهِم أن الذي يكون فيه وهنٌ غير شديد أنه لا يبينه، ومن هنا يتبين أن جميع ما سكت عليه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحي بل هو على أقسام:
1 - منه ما هو في الصحيحين أو على شرط الصحة.
2 - ومنه ما هو من قبيل الحسن لذاته.
3 - ومنه ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضد، وهذان القسمان كثير في كتابه جداً.
4 - ومنه ما هو ضعيف؛ لكنه من رواية من لم يُجمَع على تركه غالباً.
وكل هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج بها، كما نقل ابن منده عنه: أنه يخرج الحديث الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره، وأنه أقوى عنده من رأي الرجال.
وكذلك قال ابن عبد البر: " كل ما سكت عليه أبو داود فهو صحيح عنده، لاسيما إن كان لم يذكر في الباب غيره ".
ونحو هذا ما روينا عن الإمام أحمد بن حنبل فيما نقله ابن المنذر عنه: أنه كان يحتج بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا لم يكن في الباب غيره، وأصرح من هذا ما رويناه عنه فيما حكاه أبو العز ابن كادش، أنه قال لابنه: " لو أردت أن أقتصر على ما صح عندي لم أرو من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء، ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث أني لا أخالف ما يضعف إلا إذا كان في الباب شيء يدفعه "، ومن هذا ما روينا من طريق عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل بالإسناد الصحيح إليه، قال: سمعت أبي يقول: " لا تكاد ترى أحداً ينظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل، والحديث الضعيف أحب إليَّ من الرأي "، قال: فسألته عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيها إلا صاحب حديث، لا يدري صحيحه من سقيمه، وصاحب رأي، فمن يسأل؟ قال: " يسأل صاحب الحديث، ولا يسأل صاحب الرأي ".
¥