فالحديث يرويه عبد الرزاق من طريقين:
الطريق الأولى:
يروي الحديث عبد الرزاق – لكني لم أقف عليه في الجامع الكبير (وهو المُصَنَّفُ) - وقطن بن نسير وغيرهما عن جعفر بن سليمان الضبعي عن ثابت عن أنس:
قال الإمام أبو الحسن الدارقطني (كما في أطراف الغرائب والأفراد – 681): غريبٌ من حديث ثابت عن أنس، تفرد به جعفرٌ عنه، وتفرد به عنه عبد الرزاق
وقد ذكر ابن عدي (في ترجمع جعفر بن سليمان من الكامل:343 - ج2/ص144)
هذا الحديث قال: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا قطن بن نسير، أخبرنا جعفر بن سليمان، به ..
وذكر أحاديث أخرى ثم قال:
وهذه الأحاديث عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس كلها إفرادات لجعفر لا يرويها عن ثابت غيره، ولجعفر حديثٌ صالحٌ، ورواياتٌ كثيرة، وهو حسن الحديث ...
قلت: كأن الدارقطني لا يعتدُّ بقَطَن بن نُسَير، وهو صدوقٌ يخطئ، غير أن روايته قد ترفع العهدة عن عبد الرزاق:
وقال البزار في المسند (6877): وهذا الحديث لا نعلم رواه عن ثابت عن أنس إلا جعفر بن سليمان، وقد رواه الزهري عن أنس.
قلت: والحديث يرويه عن عبد الرزاق، جماعة منهم
- إسحاق بن منصور (وعنه الترمذي في الجامع 3084، والشمائل 246)
- الحسن بن علي الحلواني (وعنه أبو بكر بن أبي عاصم في الجهاد 216 - عن جوامع الكلم، وتحرف فيه جعفر إلى معمر)
- الحسين بن مهدي (وعنه البزار في المسند 6877) وقال في روياته: اليوم نضربكم على تأويله – بدل تنزيله
- خُشيش بن أصرم (وعنه النسائي في المجتبى 2886، وفي السنن الكبرى 3842)
- عبد بن حميد (المنتخب 1254/ التركية)
- محمد بن عبد الملك ابن زنجويه (وعنه النسائي في المجتبى 2906، وأبو يعلى في المسند 3440) وقال في روياته: اليوم نضربكم على تأويله – بدل تنزيله
- محمد بن يحيى الذهلي (وعنه ابن خزيمة 2680)
وقد تابع عبد الرزاق قطن بن نسير – وهو صدوق يخطئ – وعبد الله بن أبي بكر المقدمي (وعنه أبو يعلى في المسند 3994، والمعجم 214: قال أبو يعلى: وكان ضعيفا – يعني شيخه) ويحيى بن عبد الحميد الحمَّاني (الحلية 6/ 292 - عن كتاب سنن الأصفهاني / لعبد السلام بن محمد بن عمر علوش/الرشد)
هذا، ولم أجد هذا الحديث في المصنف لعبد الرزاق.
وقد أوقفني شيخنا د/ رفعت فوزي – حفظه الله – على فائدة أخرى، من الروض الأنُف (وهو شرح على السيرة لابن هشام/ ط: مؤسسة نبع الفكر العربي للطباعة/ ص 69 - باب عمرة القضاء):
قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة في تلك العمرة دخلها وعبد الله بن رواحة آخذ بخطام ناقته يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله – خلوا فكل الخير في رسوله
يا رب إني مؤمن بقيله -- أعرف حق الله في قبوله
نحن قتلناكم على تأويله -- كما قتلناكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله – ويُذهل الخليل عن خليله
قال ابن هشام: (نحن قتلناكم على تأويله) إلى آخر الأبيات لعمار بن ياسر في غير هذا اليوم، والدليل على ذلك أن ابن رواحة إنما أراد المشركين، والمشركون لم يقروا بالتنزيل، وإنما يُقتل على التأويل من أقرَّ بالتنزيل.
قلت: عبد الله بن أبي بكر هو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو ثقة من أصحاب أنس، فلو كان سمعه من أنس لحدث به كذلك، فأخشى أن يكون جعفر بن سليمان وَهِمَ على ثابت فنسب هذا الكلام إليه، ثم رواه عبد الرزاق عنه من حفظه، فذكر بعض الرجز (تأويله) وحدث به من حفظه مرة أخرى فذكر بعضه الآخر (تنزيله)
وحديث محمد بن إسحاق المرسل قد رواه البيهقي في دلائل النبوة بإسناد فيه أحمد بن عبد الجبار العطاردي – قال الحافظ: ضعيفٌ وسماعه للسيرة صحيح / وتعقبه شيخانا صاحبا التحرير (64) بأنه صدوق حسن الحديث ربما خالف، في مبحث لا يخلو من طول- ولعل هذا لا يقدح فيه لأن أبا محمد عبد الملك بن هشام رواه عن زياد بن عبد الله البكَّائي – وكان ثبتا في المغازي- عن محمد بن إسحاق. (ينظر السيرة لابن هشام، ط/دار إحياء التراث العربي، بتحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي، ج4/ص13)
وقد أخرج القصة بتمامها البيهقي في الدلائل أيضا من رواية موسى بن عقبة – وهو إمام في المغازي – عن الزهري مرسلا، بما يوافق رواية محمد بن إسحاق،
والزهري أثبت أصحاب أنس، فلو كان من حديث أنس لرواه عنه،
والمرسل عندي أشبه بالصواب، والله تعالى أجل وأعلم
يتبعه إن شاء الله تعالى بقية الكلام على هذه الرواية، مع الكلام على رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس