تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومِنْ هُنَا؛ فَإنَّ حَقِيْقَةَ الخِلافِ الجَارِي بَيْنَ جَمَاهِيْرِ أهْلِ العِلْمِ وأهْلِ المَغْرِبِ في تَقْدِيْم أحَدِ «الصَّحِيْحَيْنِ» على الآخَرِ: هُوَ جَارٍ بَيْنَهُم باعْتِبَارِ الأصَحِّيَّةِ والأفْضَلِيَّةِ في الصِنَّاعَةِ الحَدِيْثِيَّةِ، في حِيْنَ أنَّ بَعْضَهُم قَدِ اعْتَرَضَ على مَنْ أجْرَى خِلافًا باعْتِبَارِ الأصَحِّيَّةِ، لأنَّ صَحِيْحَ البُخَارِيِّ قَدْ حَازَ سَبْقَ الصِّحَّةِ، وفَاقَ في الأصَحِّيَّةِ، لضِيْقِ شَرْطِهِ ومَخْرَجِهِ في غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الاعْتِبَارَاتِ ممَّا لا يُنَازِعُهُ فِيْهَا أحَدٌ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُ، وهُوَ كَذَلِكَ!

أمَّا مَسْألَةُ التَّقْدِيْمِ بَيْنَهُمَا باعْتِبَارِ أفْضَلِيَّةِ التَّرتِيْبِ والتَّنْسِيْقِ والسُّهُوْلَةِ في الحِفْظِ والضَّبْطِ، سَوَاءٌ في سَرْدِ الأحَادِيْثِ بلفْظِهَا أو في جَمْعِ أطْرَافِهَا، أو في عَدَمِ تَقْطِيْعِهَا ونَحْوِهِ، فَهَذِهِ الأفْضَلِيَّةُ لا أرَى أنْ نُجْرِيَ فِيْهَا خِلافًا!

بَلِ الصَّوَابُ فِيْهَا باعْتِبَارِ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا: هُوَ تَقْدِيْمُ حِفْظِ «صَحِيْحِ مُسْلِمٍ» على «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ»، كَمَا دَلَّ على ذَلِكَ مَسَالِكُ التَّحْقِيْقِ، وشَوَاهِدُ الحَالِ، فَإنْ سَلَّمْتَ بِهَذَا يَا طَالِبَ العِلْمِ وإلَّا فَالأمْرُ في سَعَةٍ!

* * *

لأجْلِ هَذَا؛ فَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَا بَعْضَ الاعْتِبَارَاتِ والتَّرْجِيْحَاتِ الَّتِي مِنْ أجْلِهَا قَدَّمَ فِيْهَا أهْلُ العِلْمِ مِنَ المَغَارِبَةِ وغَيْرِهِم «صَحِيْحَ مُسْلِمٍ» على «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ» باعْتِبَارِ الأفْضَلِيَّةِ لأمُوْرٍ خَارِجَةٍ عَنِ الأصَحِّيَّةِ! فَمِنْ ذَلِكَ على وَجْهِ الاخْتِصَارِ:

أوَّلًا: أنَّ صَحِيْحَ مُسْلِمٍ أسْهَلُ تَنَاوُلًا، وأقْرَبُ مَنَالًا؛ لأنَّ مُسْلمًا رَحِمَهُ الله جَعَلَ لكُلِّ حَدِيْثٍ مَوْضِعًا وَاحِدًا يَلِيْقُ بِهِ؛ بحَيْثُ جَمَعَ فِيْهِ طُرَقَهُ الَّتِي ارْتَضَاهَا، واخْتَارَ ذِكْرَهَا، وأوْرَدَ فِيْهِ أسَانِيْدَهُ المُتَعَدِّدَةَ وألْفَاظَهُ المُخْتَلِفَةَ، فَيَسْهُلُ على الطَّالِبِ النَّظَرُ في وُجُوْهِهِ واسْتِثْمارِهَا، ويَحْصُلُ لَهُ الثِّقَةُ بجَمِيْعِ مَا أوْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقِهِ، بخِلافِ البُخَارِيِّ رَحِمَهُ الله؛ فَإنَّهُ يَذْكُرُ تِلْكَ الوُجُوْهَ المُخْتَلِفَةَ في أبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ مُتَبَاعِدَةٍ، وكَثِيْرٌ مِنْهَا يَذْكُرُهَا في غَيْرِ بَابِهِ، الَّذِي يَسْبِقُ إلى الفَهْمِ أنَّهُ أوْلى بِهِ، وذَلِكَ لدَقِيْقَةٍ يَفْهَمُهَا البُخَارِيُّ مِنْهُ، فيَصْعُبُ على الطَّالِبِ جَمْعُ طُرُقِهِ، وحُصُوْلُ الثِّقَةِ بجَمِيْعِ مَا ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ مِنْ طُرُقِ هَذَا الحَدِيْثِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ.

ثَانِيًا: أنَّ مُسْلمًا رَحِمَهُ الله يَسُوْقُ الحَدِيْثَ بكَامِلِهِ في البَابِ الوَاحِدِ، ولَوْ كَانَ الحَدِيْثُ طَوِيْلًا، ولا يُكَرِّرُ ذَلِكَ في أبْوَابٍ أو كُتُبٍ مُخْتَلِفَةٍ، إلَّا نَادِرًا بخِلافِ البُخَارِيِّ رَحِمَهُ الله.

ثَالِثًا: أنَّ «صَحِيْحَ مُسْلِمٍ» لَيْسَ فِيْهِ بَعْدَ المُقَدِّمَةِ إلَّا الحَدِيْثُ السَّرْدُ، ولم يُمازِجْهُ غَيْرُ الصَّحِيْحِ.

رَابِعًا: أنَّ مُسْلمًا رَحِمَهُ الله صَنَّفَ كِتَابَهُ في بَلَدِهِ، بحُضُوْرِ أصُوْلِهِ، في حَيَاةِ كَثِيْرٍ مِنْ مَشَايخِهِ، فَكَانَ يَتَحَرَّزُ في الألْفَاظِ، ويتَحَرَّى في السِّيَاقِ، بخِلافِ البُخَارِيِّ رَحِمَهُ الله، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ: رُبَّ حَدِيْثٍ سَمعْتُهُ بالبَصْرَةِ كَتَبْتُهُ بالشَّامِ، ورُبَّ حَدِيْثٍ سَمِعْتُهُ بالشَّامِ كَتَبْتُهُ بمِصْرَ، ولهَذَا رُبَّما يَعْرِضُ لَهُ الشَّكُّ، وهَذَا مَا قِيْلَ عَنْ بَعْضِهِم، وإلَّا البُخَارِيُّ عِنْدَنَا هُوَ أحْفَظُ وأثْبَتُ في حَدِيْثِ مَشَايخِهِ مِنْ مُسْلِمٍ دُوْنَ شَكٍّ!

خَامِسًا: أنَّ مُسْلمًا رَحِمَهُ الله لم يُكْثِرْ مِنَ المُعَلَّقَاتِ في كِتَابِهِ، وإنَّما هِيَ اثْنَا عَشَرَ حَدِيْثًا فَقَطُ، بخِلافِ مَا هُوَ مَوْجُوْدٌ في «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ»؛ حَيْثُ هِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير