سَادِسًا: أنَّ مُسْلمًا رَحِمَهُ الله قَدِ اعْتَنَى كَثِيرًا بالفَرْقِ بَيْنَ حَدَّثَنَا وأخْبَرَنَا، وتَقْيِيْدِهِ ذَلِكَ على مَشَايخِهِ، وفي رِوَايَتِهِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأصْحَابِهِ وأكْثَرِ أهْلِ الحَدِيْثِ، وجَمْهُوْرِ أهْلِ العِلْمِ بالمَشْرِقِ، بخِلافِ البُخَارِيِّ.
سَابِعًا: اعْتِنَاءُ مُسْلِمٍ رَحِمَهُ الله في تَلْخِيْصِ الطُّرُقِ، وتَحْوِيْلِ الأسَانِيْدِ مَعَ إيْجَازِ العِبَارَةِ، وكَمَالِ حُسْنِهَا.
ثَامِنًا: اعْتِنَاؤه أيْضًا بحُسْنِ تَرْتِيْبِ أحَادِيْثِ كِتَابِهِ وتَرْصِيْفِهَا على نَسَقٍ يَقْتَضِيْهِ تَحْقِيْقُهُ، وكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ بمَوَاقِعِ الخِطَابِ، ودَقَائِقِ العِلْمِ، وأصُوْلِ القَوَاعِدِ، وخَفِيَّاتِ عِلْمِ الأسَانِيْدِ، ومَرَاتِبِ الرُّوَاةِ، وغَيْرَ ذَلِكَ.
تَاسِعًا: اعْتِنَاؤهُ واحْتِيَاطُهُ رَحِمَهُ الله بضَبْطِ اخْتِلافِ لَفْظِ الرُّوَاةِ في التَّحْدِيْثِ، وهُنَاكَ غَيْرُ ذَلِكَ ممَّا امْتَازَ بِهِ «صَحِيْحُ مُسْلِمٍ» على «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ» تَجَاوَزْنَا ذِكْرَهَا.
وقَدْ قَالَ ابنُ الدَّيْبَعِ رَحِمَهُ الله:
إنَّ صَحِيْحَ مُسْلِمٍ يا قَارِي لبَحْرُ عِلْمٍ مَا لَهُ مُجَارِي
سِلْسَالُ مَا سُلْسِلَ مِنْ حَدِيْثِهِ ألَذُّ مِنْ مُكَرَّرِ البُخَارِي
* * *
ومَهْمَا قِيْلَ مِنْ ذِكْرٍ لبَعْضِ الاعْتِبَارَاتِ والمُرَجِّحَاتِ عِنْدَ مَنْ يُقَدِّمُ «صَحِيْحَ مُسْلِمٍ» على «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ»، إلَّا أنَّنَا هُنَا لَسْنَا في مُقَامِ الاعْتِرَاضِ والتَّعْقِيْبِ عَلَيْهَا، لأنَّ هَذِهِ المَسْألَةَ لهَا بَسْطُهَا وتَرْجِيْحُهَا لَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ، غَيْرَ أنَّني ولله الحَمْدُ قَدْ بَسَطْتُ الكَلامَ عَلَيْهَا وعلى غَيْرِهَا في كِتَابي الكَبِيْرِ: «مَسَالِكِ التَّحْدِيْثِ في شَرْحِ اخْتِصَارِ عُلُوْمِ الحَدِيْثِ».
في حِيْنَ أنَّهُ قَدْ بَاتَ عِنْدَ عَامَّةِ أهْلِ العِلْمِ مِنَ المُحَدِّثِيْنَ والفُقَهَاءِ والأصُولِيَّيِنْ وغَيْرِهِم: بأنَّ «صَحِيْحَ البُخَارِيِّ» أصَحُّ مِنْ «صَحِيْحِ مُسْلِمٍ»، لاعْتِبَارَاتٍ ومُرَجِّحَاتٍ لا تَسَعُهَا هَذِهِ الرِّسَالَةُ المُخْتَصِرَةُ.
ومَا ذِكْرُنَا لهَذِهِ المُرَجِّحَاتِ وغَيْرِهَا إلَّا زِيَادَةَ يَقِيْنٍ لَنَا على القَوْلِ: بأفْضَلِيَّةِ تَقْدِيْمِ حِفْظِ «صَحِيْحِ مُسْلِمٍ» على «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ»، وذَلِكَ باعْتِبَارِ التَّنْسِيْقِ والتَّرتِيْبِ ممَّا هُوَ مِنْ مَقَاصِدِ تَقْرِيْبِ الحَدِيْثِ، وتَسْهِيْلِ الحِفْظِ عِنْدَ طُلَّابِ الحَدِيْثِ وحُفَّاظِهِ، والله المُوَفِّقُ.
المَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ: ثُمَّ يَحْفَظُ الطَّالِبُ كُتَبَ «السُّنَنِ الأرْبَعِ»، ابْتِدَاءً بسُنَنِ أبي دَاوُدَ (275)، ثُمَّ التِّرمِذِيِّ (279)، ثُمَّ النِّسَائيِّ (303)، ثُمَّ ابنِ مَاجَه (273)، وهَذَا التَّرْتِيْبُ لَهُ اعْتِبَارٌ عِنْدَ كَثِيْرٍ مِنْ أئِمَّةِ الشَّأنِ، وإلَّا فَالمَسْألَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ لا غَيْرَ، لِذَا فَإنَّ الطَّالِبَ لَهُ حَقُّ التَّقْدِيْمِ والتَّأخِيْرِ، ولاسِيَّما مَا كَانَ لَهُ أرْفَقُ، ولحِفْظِهِ أتْقَنُ، كَمَا عَلَيْهِ والحَالَةُ هَذِهِ أنْ يَسْتَنْصِحَ أهْلَ العِلْمِ المُشْتَغِلِيْنَ بكُتُبِ السُّنَّةِ والأثَرِ.
وقَدْ درَج عَامَّةُ أصْحَابِ الحَدِيْثِ (عَدَا ابنِ الأثِيرِ وغَيْرِهِ) على تَسْمِيَتِهِم للصَّحِيْحَيِنْ والسُّنَنِ الأرْبَعِ: بـ «الكُتُبِ السِّتَّةِ»!
المَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ: ثُمَّ يَحْفَظُ الطَّالِبُ مَا زَادَ على «الكُتُبِ السِّتَّةِ» مِنَ كُتُبِ السُّنَّةِ ابْتِدَاءً بـ «مُوَطَّأ» الإمَامِ مَالِكٍ، و «المُسْنَدِ» للإمَامِ أحمَدَ، ثُمَّ يُعَرِّجُ إلى حِفْظِ غَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ: «المَسَانِيْدِ»، و «المَعَاجِمِ»، و «المُصَنَّفَاتِ»، و «الأجْزَاءِ» وغَيْرِهَا ممَّا هُوَ مِنْ شَأنِ أئِمَّةِ الحَدِيْثِ، وحُفَّاظِ السُّنَّةِ.
¥