و من جملة أوهام الأسانيد التي يمكن أن يقع فيها الثقة، هذه المسألة - أي مسألة صيغ التحديث - فقد يهم الثقة في ذكر التصريح بالسماع في إسناد ما، والصحيح أنَّه يُروى من غير التصريح بالسماع، و لا يعرف هذا إلاَّ الإمام الجهبذ النقاد، والأمثلة على هذا كثيرة، منها:
1 – قال علي بن المديني رحمه الله تعالى: " همام بن الحارث لقي أبا مسعود وأسامة بن زيد وعبد الله بن مسعود0
وعن همام بن الحارث قال: صلى بنا عمر، وهذا وهم0 6
انظر كيف حكم ابن المديني على هذا التصريح باللقاء بالوهم0
2– وقال ابن أبي حاتم: " سألت أبي عن سفر بن نسير هل سمع من أبي الدرداء شيئا 00؟؟ 0
فقال: لا، قلت: فإن أبا المغيرة روى عن عمر بن عمرو بن عبد الأحموسي عن السفر بن نسير إنه سمع أبا الدرداء فقال هذا وهم"0 7
انظر كيف حكم أبو حاتم الرازي رحمه الله تعالى على هذا التصريح بالسماع بالوهم، في حين أنَّه أتى من طريق الثقات، فأبو المغيرة واسمه: عبد القدوس بن بن الحجاج الخولاني ثقة جليل القدر شيخ أحمد والبخاري، وحديثه في الكتب الستة0 8
وكذا الحال في عمرو بن عبد الأحمسي، هو ثقة، ثقات الحمصيين0 9
بل و لم يسلم من أمثال هذه الأوهام كبار النقاد أيضاً، و هذين المثالين يوضحان المقصود، فالأول عن شعبة بن الحجاج، والآخر عن علي بن المديني0
1 – قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى:
" ذكر علي بن المديني أنَّ شعبة وجدوا له غير شيء فيه الإخبار عن شيوخه ويكون منقطعاً "0 10
2 – وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى - وهو يتحدث عن تصريح سماع الأعمش من مجاهد، في حديث أخرجه البخاري رحمه الله تعالى – ما نصه:
" قوله عن الأعمش حدثني مجاهد أنكر العقيلي هذه اللفظة وهي حدثني مجاهد، وقال: إنما رواه الأعمش بصيغة عن مجاهد، كذلك رواه أصحاب الأعمش عنه وكذا أصحاب الطفاوي عنه، وتفرد بن المديني بالتصريح، قال: ولم يسمعه الأعمش من مجاهد و إنما سمعه من ليث بن أبي سليم عنه فدلسه، وأخرجه بن حبان في صحيحه من طريق الحسن بن قزعة حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن الأعمش عن مجاهد بالعنعنة، وقال: قال الحسن بن قزعة ما سألني يحيى بن معين إلا عن هذا الحديث، وأخرجه بن حبان في روضة العقلاء من طريق محمد بن أبي بكر المقدمي عن الطفاوي بالعنعنة أيضا، وقال: مكثت مدة أظن ان الأعمش دلسه عن مجاهد و إنما سمعه من ليث حتى رأيت على بن المديني رواه عن الطفاوي فصرح بالتحديث يشير إلى رواية البخاري التي في الباب "0 11
انظر إلى قول الحافظ ابن حجر: " وتفرد بن المديني بالتصريح "0والصحيح أنَّه من رواية الأعمش عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد0
3 – والسبب الثالث الذي يدعو الرواة إلى التصرف في صيغ التحديث: هو تأول الراوي لهذه الصيغ:
ولعلَّ أوضح مثال في هذا، ما كان يصنعه الحسن البصري رحمه الله تعالى عندما كان يحدث عن بعض لم يسمع منهم و مع ذلك كان يصرح بالسماع منه0
فقد أجمع النقاد على أنَّ الحسن البصري رحمه الله تعالى لم يسمع من ابن عبَّاس بل لم يره، إذا أنَّ الحسن البصري رحمه الله تعالى كان بالمدينة حين دخل ابن عبَّاس إلى البصرة 12، ومع ذلك كثيراً ما كان يقول:" حدَّثنا ابن عبَّاس "0أو:" حطبنا ابن عبَّاس بالبصرة "0
ولا يقصد من هذا الصنيع الكذب أو الإيهام بالسماع، بل تأول ذلك على أنَّ ابن عبَّاس حدَّث أهل البصرة بهذا، لا حدثه هو0
وفي ذلك يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى:
" فقد تستعمل:" ثنا "0في الإرسال، كما كان ابن الحسن يقول:" ثنا ابن عبَّاس "0ويتأول أنَّه حدَّث أهل البصرة "013
وممن كان يصنع صنيع الحسن البصري رحمه الله تعالى هذا، ثابت ومجاهد، وفي ذلك يقول علي بن المديني رحمه الله تعالى:
" حديث الحسن خطبنا ابن عباس بالبصرة، إنما هو كقول ثابت قدم علينا عمران بن حصين ومثل قول مجاهد قدم علينا علي "0 14
ومن هنا كان ينبغي على الباحث أن يكون على حذر من هذا الأمر الهام، ولا يغتر بمجرد ذكر السماع والتحديث في الأسانيد0
ورحم الله إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل على تفطنه المبكر لمثل هذه القضية الحساسة، حيث قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى ما نصه:
¥