فالمعوّل عليه في الأخبار حتى هو صحة الأسانيد من عدمها؛ ولذلك -أيها الإخوة- لا تعجبوا أن تجدوا في كتب التواريخ العجب العُجاب، والدواهي كثيرة، مثل قصة استباحة المدينة، فهي بهذه الصورة لا تثبت، ونعوذ بالله أن تثبت بهذه الصورة، يعني: ما بين وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين هذه الحادثة قيل: أقل من ستين سنة، وأصبح المسلمون يصلون إلى هذه الدناءة؟! هذا أمر بعيد.
تعرفون معنى الاستباحة؟ يعني: أصبحت المدينة مباحة، بحيث الرجل يمسك أي امرأة ويزني بها، يمسك أي مال ويأخذه، وأصبح الناس قد -يعني- اختلطت أنسابهم، وحصل -يعني- من حالة مثل ما يشبه الآن حالة استباحة الصرب للبوسنة.
نسأل الله السلامة من هذا، أن يقع من الناس في مثل ذلك الوقت، حتى وإن كان هناك من التنازع على الملك والحكم ما حصل، لكنه لا يصل -والعياذ بالله- إلى هذه الدرجة.
كذلك -أيضا- حادثة إحراق الكعبة، يعني: كأنها متعمدة من الحجاج بن يوسف في مقاتلته لعبد الله بن الزبير -رضي الله تعالى عنهما-، وأن الكعبة قد أُحرقت عن تعمد من قوات الحجاج بن يوسف، وهذا -يعني- لم يحصل بهذه الصورة التي تصورها كتب التواريخ.
والسبب أن هذه القصص والحكايات التي في تاريخ الأمة الإسلامية أكثر من افتعلها هم الروافض، وقصدهم من ذلك تشويه الدولة الأموية؛ لأن الدولة الأموية على ما فيها -يعني- من القصور، لكنها هي الدولة التي حققت الفتوحات الإسلامية العريضة في وقت مبكر من تاريخ الأمة الإسلامية.
ولابن كثير -رحمه الله- تعالى كلام جيد في "البداية والنهاية" وهو يذكر مآثر هذه الدولة، فيذكر أن القائد الفلاني في السند يفتح البلدان والأقاليم، والقائد الفلاني في بلاد الترك، والقائد الفلاني في بلاد الأندلس، والقائد الفلاني في كذا، والقائد الفلاني في كذا؛ فيذكر من نشرهم لدين الله -جل وعلا- ما يجعل فعلا الأعداء يأكل الغيظ قلوبهم، ويجعلهم يصوبون سهامهم نحو هذه الدولة؛ لتشويه سمعتها وإسقاطها.
ومعروف بأن العداء بين الدولة الأموية والروافض قائم على أشده.
فمن الروافض أبو مخنف، وهو راوية من رواة التواريخ، وعنده من القصص والحكايات الشيء الكثير.
ومن الروافض -أيضا- هشام بن السائب الكلبي، وهو من الروافض أيضا والأخباريين.
ومنهم رجل يقال له: عوانة، وغيرهم كثير، وكذلك -أيضا- الواقدي صاحب "المغازي" وهم كثرة، كلهم روافض وممن يضعون الأخبار.
فلو أن هذه الأخبار خضعت لمقياس النقد الذي عند أهل الحديث لذهب منها جملة، ولبقي لنا ما صح من تاريخ الأمة الإسلامية ناصعًا أبيضَ نقيًا.
ولذلك نقول: حتى المؤرخ لا يستغني عن علم الحديث، لا يستغني عن الإسناد، وكل ما لم يُرْوَ بالسند فهو مما ينبغي أن يُبْعَد.
وينبغي أن نعلم أن الإسناد من خصائص الأمة المحمدية التي فضلها الله -جل وعلا- على سائر الأمم.
ومن أوجه هذا التشريف والتكريم لهذه الأمة وجوب الإسناد الذي لم يوجد عند أمة من الأمم.
كذلك أيضا -أيها الإخوة- لو نظرنا للدعاة والمصلحين في تاريخ الأمة الإسلامية، نجد الغالب جدا منهم ممن برزوا في علم الحديث:
أولهم الإمام أحمد -رحمه الله- الذي وقف في وجه الفتنة المعروفة، ثم مَن تتلمذ عليه، ومن كان في عصره، أئمة، ومن كان قبل ذلك.
شعبة مَن هو؟ محدث، سفيان الثوري مَن هو؟ محدث، عبد الرحمن بن مهدي مَن هو؟ محدث، الإمام مالك مَن هو؟ محدث، عبد الله بن المبارك الإمام المجاهد مَن هو؟ محدث، الشافعي -رحمه الله- مَن هو؟ محدث، إسحاق بن راهويه محدث، أبو بكر بن أبي شيبة محدث، البخاري محدث، مسلم محدث، أبو داود، الترمذي، النسائي، ابن ماجه، ابن خزيمة، ابن حبان، الحاكم.
كل هؤلاء الأفذاذ، وغيرهم وغيرهم كثير كلهم محدثون، وهم ممن نشروا العلم في صفوف الناس، وهم ممن من وقفوا أيضا في وجه أي مبتدع وضالٍ منحرف عن الطريق السوي.
فتجد الواحد منهم -مع بروزه في علم الحديث- إلا أنه له المشاركة في فنون أخرى؛ فالبخاري -رحمه الله- هو الذي ألف "خلق أفعال العباد" في بيان وجه الحق في مسألة اللفظ، وهل أفعال العباد مخلوقة أو غير مخلوقة؟.
الإمام أحمد -رحمه الله- هو الذي -يعني- نقل عن ابن عبد الله كتاب السنة الذي يعتبر أصلا من الأصول.
ابن أبي عاصم من قمة المحدثين، وهو صاحب كتاب "السنة".
¥