أولاً: لايتردد أحد ممن له علاقة بعلم الحديث أن أئمة النقد في القرن الثالث والرابع، من أمثال ابن معين وابن المديني وأحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وأبي حاتم وأبي زرعة وابن خزيمة والعقيلي وابن أبي حاتم وابن عدي وابن حبان والدارقطني وأمثالهم = أنهم أعلم (بمراتب كثيرة) من المتأخرين من أمثال الذهبي وابن حجر والسخاوي والسيوطي فمن جاء بعدهم إلى المعاصرين 0
ثانياً: لايشك أحد ممن له علاقة بعلم الحديث وبعلمائه وتراجمهم وأخبارهم أن أئمة الحديث ممن سبق ذكر أعيانهم أسلم الناس قلبا (وفكرا) من العلوم الدخيلة على العلوم الإسلامية التي أثرت فيها تأثيرا سيئا، كعلم المنطق ووليده علم الكلام، وأنهم في هذا الأمر ليسوا كعامة المتأخرين ممن تأثروا بتلك العلوم: بطريق مباشر أو غير مباشر (كما بينت ذلك في المنهج المقترح) 0
ثالثاً: لايخفى على أحد أن علم الحديث كان خلال القرون الأولى حيا بين أهله؛ لأنهم هم الذين سايروا مراحل نموه وتطوره، وواجهوا الأخطار التي أحدقت به بما يدفعها، وهم الذين وضعوا قواعده وأتموا بناءه، حتى اكتمل 0 وأنه بعد ذلك ابتدأ في التناقص، حتى وصل الى درجة الغربة (كما صرح بذلك ابن الصلاح ت 643ه) 0ولذلك غمضت على المتأخرين كثير من معالمه، وخفيت عليهم معاني بعض مصطلحاته، وصاروا يصرحون في مواطن كثيرة (بلسان الحال والمقال) أنهم مفتقرون الى الإستقراء والدراسة لأقوال المتقدمين ومناهجهم لاستيضاح معالم علم الحديث ومعاني مصطلحاته التي كانت حية واضحة المعالم عند المتقدمين (كما سبق) 0
ولذلك كنت قد وصفت المتقدمين في كتابي (المنهج المقترح) ب (أهل الإصطلاح)، ووصفت المتأخرين بأنهم (ليسوا من أهل الإصطلاح)؛ لأنهم (أعني المتأخرين) مترجمون لمعاني مصطلحات المتقدمين،
ومستنبطون لمعالم علمهم: أصولا وفروعا، وليس لهم دور آخر سوى ذلك، إلا أن يحفظوا لنا الأوعية التي تركها المتقدمون (وهي الكتب) 0
وبذلك يظهر لنا الفرق الكبير بين الفريقين، إنه كالفرق بين: من كان من أهل الإحتجاج بلغته من العرب (فهم أهل اللغة)، ومن جاء بعد انقراض هؤلاء ممن صنف كتب اللغة 0 بل من جاء بعدهم بزمن، بعد أن أفسد علم المنطق من علوم اللغة ما أفسده في العلوم الأخرى، وبعد أن ضعف العلم باللغة كما ضعفت العلوم الأخرى!!!
وإذا كان الأمر بالنسبة للمتقدمين والمتأخرين على ما سبق شرحه، فهل يشك أحد أن هناك فرقا بين المتقدمين والمتأخرين؟!!!
وإني لأسأل: إذا تكلم في علم من العلوم رجلان، أحدهما: أعلم به، بل هو من مبدعيه وواضعيه 0 وثانيهما: أقل علما به بمراتب، بل قصارى شأنه أن يفهم كلام الأول ويستوضح منهجه = أيهما سيكون أولى بمعرفة الحق في مسائله؟ ومن منهما سيكون قوله أصوب وأسد 0
وبصراحة أكثر: إذا صحح أحد المتأخرين حديثا، لن يؤثر على تسديد حكمه أنه:
1 ــ أقل علما من المتقدمين.
2 ــ وأنه قد تأثر فكره وعقله بمناهج غريبة عن علم الحديث.
3 ــ وأنه ما زال مفتقرا لفهم واستيضاح بعض معالم علم الحديث 00؟!!
وإذا قرر أحد المتأخرين قاعدة من قواعد نقد الحديث في القبول والرد، أو أصل أصلا في إنزال الرواة منازلهم جرحا أو تعديلا، ثم وجدنا أن تلك القاعدة أو ذلك الأصل يخالف ولا يطابق التقعيد الواضح أو المنهج اللائح من أقوال أو تصرفات الأئمة المتقدمين = فمن سيتردد أن المرجع هم أهل الاصطلاح وبناة العلم (وهم المتقدمون)؟!!! إني – بحق – لا أعرف أحدا يخالف في ذلك؛ لأني لا أتصور طالب علم يخفى عليه مأخذه!
أما قول من يقول: إن المتأخرين من علماء الحديث (كالذهبي والعراقي وابن حجر والسخاوي والسيوطي) أعرف الناس بمنهج المتقدمين في قواعد الحديث , وأنهم نصروا مذهبهم = فإني أقول له:
أولاً: فإذا اختلف المتأخرون (وما أكثر ما اختلفوا فيه: من تعريف الحديث الصحيح 000إلى المدبج ومعناه) = فمن هو الحكم؟ وإلى ماذا المرجع؟ أو ليس هو تطبيقات المتقدمين وأحكامهم وأقوالهم؟
أم أن هذا القائل لتلك المقالة يريد منا أن نقفل باب الاستقراء والدراسة لأقول الأئمة المتقدمين؟!!!
¥