تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم نرى ابن العماد الحنبلي في"شذرات الذهب" (1\ 139) يقول: «الإمام إبراهيم بن يعقوب أبو إسحاق الجوزجاني صاحب التصانيف. كان من كبار العلماء، وجرّح وعدّل، وهو من الثقات». وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (11\ 31): «إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق أبو إسحاق الجوزجاني: خطيب دمشق وإمامها وعالمها. وله المصنفات المشهور المفيدة، منها المترجم فيه علوم غزيرة وفوائده كثيرة». وقال نحو ذلك الذهبي في "العبر في خبر من غبر" (2\ 24). وكيف يكون الجوزجاني ناصبياً مع إقرار العلماء أنه إمام من أئمة الحديث؟ ولماذا لا نجد أحداً نبذه بالنصب إلا بعض المتأخرين ممن لبعضهم ميولاً شيعية؟

وعلى فرض أنه ناصبي كما يزعمون، فعندما يجرح الشيعيَّ الثقة، يقول عنه زائغ أو مخذول أو مذموم أو مائل عن الحق، ولا يتهمه بضعف الحفظ. بل هو يحتج بحديثه في غير بدعته. وعلى سبيل المثال فإن الجوزجاني وثّق "حبة بن جوين" الشيعي مطلَقاً، رغم أن الجمهور ضعفه. وقد قال عنه ابن حبان: «كان غالياً في التشيع، واهياً في الحديث». فلم يمنع غلو "حبة بن جوين" في التشيع، من توثيق الجوزجاني له. وهذا من إنصافه رحمه الله. وإذا أراد أن يبين انحراف الراوية بيّن ذلك دون أن يرد حديثه كله. فقد قال مثلاً في إسماعيل بن أبان الوراق: «كان مائلاً عن الحق، ولم يكن يكذب».

وقد نص الإمام الجوزجاني على هذا المنهج بنفسه، فقال في كتابه "أحوال الرجال" (ص32): «ومنهم زائِغٌ عن الحقّ، صدوق اللهجة، قد جرى في الناس حديثه: إذ كان مخذولاً في بدعته، مأموناً في روايته، فهؤلاء عندي ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يُعرف، إذا لم يُقَوِّ به بدعته، فيُتَّهم عند ذلك». وهذا المذهب هو ما عليه جمهور المحدثين من أهل السنة والجماعة. وقد نقل ابن حجر هذه العبارة مُقِراً لها في لسان الميزان (1\ 11).

ولم يجد ابن حجر مثالاً على غلو الجوزجاني في جرح الشيعة إلا مقولته في الأعمش الكوفي (ثقة فيه تشيع لكنه يدلس عن كذابين). فقد قال الجوزجاني في "أحوال الرجال" (ص192 - طبعة مؤسسة الرسالة 1405): «حدثني أحمد بن فضالة وإبراهيم بن خالد، عن مسلم بن إبراهيم، عن حماد بن زيد، قال: قال الأعمش حين حضرته الوفاة: أستغفر الله وأتوب إليه من أحاديث وضعناها في عثمان». وهذا إسنادٌ رجاله ثِقات، ولكن حمّاد بصْري أرسل الخبر ولم يحضر احتضار الاعمش. فيكون حمّاد قد سمع الخبر من رجُلٍ لم يُسمّه. فلا يصلح هذا جرحاً في الأعمش، ولا يُطعَنُ به في الجُوزجاني. أم بالقوة يريدون أن يكون الجوزجاني كذاباً لأجل أنه يُظَنّ أنه اتخذ موقفاً سياسياً من الشيعة؟! ولم يستطع أحدٌ من هؤلاء إثبات تهمة النصب للجوزجاني، فأين ما يدّعونه؟

وإنما اعتمد ابن حجر على قصة باطلة ذكرها السلمي عن الدارقطني –بعد أن ذكر توثيق الجوزجاني–: «لكن فيه انحرافٌ عن علي: اجتمع على بابه أصحاب الحديث، فأخرجت جارية له فروجة (أي دجاجة) لتذبحها، فلم تجد من يذبحها. فقال: سبحان الله! فروجة لا يوجد من يذبحها، وعلي يذبح في ضحوةٍ نيّفاً وعشرين ألف مسلم؟!»، يقصد قتل عليٍّ لمسلمي الشام في صفّين. أقول: وهذا يُسمى انحرافٌ عن علي، ولا يعني مناصبته العداء، ولا يعني شتمه أو سبه والعياذ بالله. إنما كان الحافظ الجوزجاني على مذهب أهل دمشق فى الميل على علي. وبين هذا وبين النصب فرقٌ كبير. وبذلك نفهم قول ابن حبان في "الثقات" عنه: «كان حريزي المذهب، و لم يكن بداعية». يقصد أنه يشبه حريز بن عثمان، وهذا الأخير كان ثقةً ثبتاً يترحم على عليٍّ وينكر على من شتمه، إلا أنه كان يقول: «لا أحبه. قتلت آبائي». ومقولة الحافظ الجوزجاني تصب في نفس المعنى.

قال العلامة المعلمي في "التنكيل" في رده على الكوثري: «وأما الجوزجاني فحافظ كثير متقن عارف. وثّقه تلميذه النسائي جامع "خصائص علي" وقائل تلك الكلمات في معاوية. ووثقه آخرون. فأما ميل الجوزجاني إلى النصب فقال ابن حبان في "الثقات": "كان حريزي المذهب، ولم يكن بداعية. وكان صلبا في السنة ... إلا أنه من صلابته ربما كان يتعدى طوره". وقال ابن عدي: "شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في النيل على علي".

وليس في هذا ما يُبيّن درجته في الميل. فأما قصة الفروجة فقال ابن حجر في "تهذيب التهذيب": "قال السلمي عن الدارقطني بعد أن ذكر توثيقه: لكن فيه انحراف عن علي. اجتمع علي بابه أصحاب الحديث فأخرجت جارية له فروجة ... ". فالسلمي هو محمد بن الحسين النيسابوري، ترجمته في "لسان الميزان" (5

140): تكلموا فيه حتى رموه بوضع الحديث! والدارقطني إنما وُلِدَ بعد وفاة الجوزجاني ببضع وأربعين سنة. وإنما سمع الحكاية –على ما في معجم البلدان "جوزجانان"– من عبد الله بن أحمد بن عدبس. ولابن عدبس ترجمة في "تاريخ بغداد" (9

384) و "تهذيب تاريخ ابن عساكر" (7

288) ليس فيها ما يبيّن حاله. فهو مجهول الحال، فلا تقوم بخبره حجة. وفوق ذلك، فتلك الكلمة ليست بالصريحة في البغض. فقد يقولها من يرى أن فعل علي –عليه السلام– خلاف الأولى، أو أنه اجتهد فأخطأ. وفي "تهذيب التهذيب" (10

391) عن ميمون بن مهران قال: "كنت أفضّل علياً على عثمان. فقال عمر بن عبد العزيز (الخليفة الراشد): أيهما أحب إليك، رجل أسرع في المال، أو رجل أسرع في كذا –يعني الدماء–. قال: فرجعت وقلت: لا أعود". وهذا بَيِّنٌ في أن عمر بن عبد العزيز وميمون بن مهران، كانا يريان فعل علي خلاف الأَولى أو خطأ في الاجتهاد. ولا يعد مثل هذا نصباً، إذ لا يستلزم البغض، بل لا ينافي الحب. وقد كره كثير من أهل العلم معاملة أبي بكر الصديق لمانعي الزكاة معاملة المرتدين، ورأوا أنه أخطأ، وهم مع ذلك يحبونه ويفضلونه.

فأما حط الجوزجاني على أهل الكوفة، فخاصٌّ بمن كان شيعياً يبغض الصحابة أو يكون ممن يظن به ذلك. وليس أبو حنيفة كذلك. ثم قد تقدم في القاعدة الرابعة من قسم القواعد، النظر في حط الجوزجاني على الشيعة، واتضح أنه لا يجاوز الحد، وليس فيه ما يسوغ اتهامه بتعمد الحكم بالباطل، أو يخدش في روايته ما فيه غض منهم أو فيهم. وتوثيق أهل العلم له يدفع ذلك البتة كما تقدم في القواعد. والله الموفق».

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير