(4) الأَحْفظُ عُموماً أَوْلَى مِنَ الأَقلِّ مِنْهُ, -وكلهم حفّاظ ثقات- فإذا كان نسبةُ احتمال خطأ الحافظ أقل من الثاني, وكلما احتمال نسبة الخطأ أقل من الآخر قدّمت روايته, ولكن قد تُقدم رواية الأقل بالقرائن كأن يكون قد ضبط أحد الوجهين كما حصل بين سفيان وحماد أو يكون قد حفظ الأصعب.
(5) وُجُودُ سَببِ في القصةِ وَقُوةِ الحِفْظِ يُقدّم الرّوَايةَ عَلَى مَا لَا يُوجَدُ فِيهَا ذَلِكَ السَّبَبُ, وصورته: الراوي الذي حضر القصة التي سببت رواية هذا الحديث كأن يكون بمجلس فيسأل أحد التابعين فأورد التابعي الحديث في هذا المجلس, ففي العادة القصص والحوادث تُحفّظ وترسّخ في الذهن الحديث, فالصحابي الذي حضر الواقعة يكون في حفظ الحديث والواقعة أقوى من الراوي الصحابي الذي يوري الحديث نفسّه, ويدلّه: أن عائشةَ وهَّمت بعضَ الصحابةِ في أحاديثَ لم يواقعها غيرها. ومن القرائن في هذا: أن يكون من أهل بيت الراوي, كأن يروي الابنُ عن أبيه فهو أقوى من رواية غيره من التلاميذ. ومن القرائن في هذا: أن يكون له اهتمام بالموضوع المعيّن, كأن يكون اهتمام تابعيّ في أحاديث المواريث فهو مقدَّم على غيره.
(6) المَحْفُوظُ أدْومُ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ مِنَ الوَهْمِ. وصورته: المحفوظ جيداً أدعى أن يثبت عليه الراوي على وجه واحد, أمّا روايته له على أشكالٍ مختلفة وأنواعٍ فهذا يدلّ على عدم الضبط والإتقان.
مِثالُه: أبو إسحاق السبيعي حدث بحديث "لا نكاح بلا ولي" بمجلسٍ واحدٍ بحضرةِ سفيان الثوري وشعبة مرسلاً وحدّثه في مجالس عديدة متصلاً فقدّم الترمذي ما رواه أبو إسحاقِ في (مجالس عديدة) على الذي رواه في (مجلس واحد) وإن كانَ بحضرة أوثق الناس فيه وهما (سفيانُ وشعبةُ) فهذا يدلّ أن هذا الذي كان يحفظه, أما روايته بخلافٍ في ذاك المجلس فلعله كَسِل أو غيرها من الأوهام التي سبقت.
(7) الأَصْلُ عَدمُ وَهْمِ المَقْبولِ, وصورته: أن يكونَ صوابه أكثرُ من خطأِه فلا يُخرج عن الأصل إلا بدليلٍ أقوى من هذا الأصل, وكلّما كان الراوي صوابُه أكثر من خطأِه كلمّا ضعفت القرائن التي تجعلنا نوهّمه, وكلّما كثُرتْ نسبة الخطأ وإن كان صوابُه أكثر كلما كانت القرائن أدْعى للحكمٍ بتوهيمه, وتجد كتاب الحفاظ كالزهري والسبيعي من الذين تدور عليهم الأسانيد –ممن روايتهم واسعة- يروون الأحاديث على أوجهٍ مختلفةٍ, فهذا مبنيّ على أنَّ الأصلَ في المقبول أن تكونَ روايتُه صحيحةً, وكلّما ضعفَ حفظه كلما كان أذهب عن قبول الأوجه المتعدّدةِ منه.
(قَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ فِي التَّعْلِيلِ)
القاعدةُ: إذا اتّحد مخرجُ الحديثِ فالأصل عدم التعدّد إلا بدليل. وكلّما نَزَلَ مخرجُ الحديث في الإسنادِ كلما أصبح القول بالتعدد فيه أضعف وقويَ الأصل. وكلما اختلف مخرجُ الحديث كان الأصل فيه التعدّد إلا أن يدل دليل أنها قصّة واحدة. اه فعِندما تجد كل الرواة عن ثابت عن أنس فهو على وجهٍ واحد, وإذا جاء خلاف فلا يعتدّ به ما لم يثبت. فإن كان مخرج الحديث عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس, وكل الأوجه خلافه فلا يعتدّ بها ولا تعدد بالحديث, لأنَّه كلما نزل كان تقوية القول بأنه حديث واحد أقوى.
ولو وجد الحديث عن أنس من ثابت والحسن البصري وقتادة فهنا يحتمل لكل رجل حديثٍ, وقد يكون أبعد من هذا فيوجد عن عدة من الصحابة ابن عباس, ابن عمر, عمر, فيقوى القول بتعداد الحديث, ولكن إذا ثبتَ أنها قصة واحدة فيحتمل أنَّهُ حديثٌ واحدُ.
(شُبهَةٌ في القاعدة) ذكر ابن رجب أنّ هناك خلافاً منهجيَّا في التعليل بين الدار قطني وعليٌّ بن المديني ومن وافقه متعلّقة في قاعدتنا السابقة. وهو أنَّ الدار قطني: إذا وجد الحديث من وجوه مختلفة فإنه يعتبر الحديث واحد ويوهم ويصحّح. وعند عليُّ بن المديني: قد يقول هذا وهذا حديثٌ آخر ويحكم بالصواب. والحقُّ أن منهجهما واحدٌ ولا يختلفون البتًَّة في منهجهما ولا في منهج أهل التعليل, ونقول: لمَ يكن البخاري مثل شيخه؟ إن كان هذا صحيحاً؟ والحقّ أن الخلاف يكون في التطبيق لا المنهج.
قال الإمام ابن رجب الحنبلي في "شرح علل الترمذي": واعلم: أن هذا كله إذا علم أن الحديث الذي اختلف في إسناده حديث واحد، فإن ظهر أنه حديثان بإسنادين لم يحكم بخطأ أحدهما.
¥