وَقَالَ ابنُ مُفْلح: ((وَسُئل أبو عبد الله - أي الإمام أحمد - عن الرجل يصافح المرأة قَالَ: لا وشدّد فيه جداً، قلت: فيصافحها بثوبه؟ قَالَ: لا، والتحريمُ اختيار الشيخ تقيّ الدين (51)، وعلل بأنَّ الملامسة أبلغُ من النظر)) (52).
وَقَالَ وليُّ الدين العراقيّ: ((وفيه: أنّه عليه الصلاةُ والسلامُ لم تمس يدهُ قطّ يد امرأة غير زوجاته وما ملكت يمينه، لا في مبايعة، ولا في غيرها، وإذا لم يفعل هو ذلكَ مَعَ عصمته وانتفاء الريبة في حقه: فغيره أولى بذلك، والظاهرُ أنه كان يمتنع من ذلك لتحريمهِ عليهِ؛ فإنه لم يُعدَّ جوازه من خصائصه، وقد قَالَ الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: إنه يحرم مس الأجنبية ولو في غير عورتها كالوجه، وإن اختلفوا في جواز النظر حيثُ لا شهوة ولا خوف فتنة، فتحريم المس آكد من تحريم النظر، ومحل التحريم ما إذا لم تدع لذلك ضرورة فإن كان ضرورة كتطبيب، وفَصْد، وحجامة، وقلع ضرس، وكحل عين ونحوها مما لا يوجد امرأة تفعله جاز للرجل الأجنبي فعله للضرورة)) (53).
وللشنقيطي كلامٌ نفيسٌ في تقرير عدمِ جواز مسّ الرجلِ المرأة الأجنبية قَالَ فيه: ((اعلمْ أنَّه لا يجوزُ للرجلِ الأجنبي أنْ يصافحَ امرأةً أجنبيةً منهُ، ولا يجوزُ له أنْ يمسّ شيءٌ مِنْ بدنهِ شيئاً مِنْ بدنها، والدليلُ على ذلكَ أمورٌ:
الأوَّلُ: أنّ النَّبِيّ ? ثبت عنه أنه قَالَ: إِنِّي لا أُصَافِحُ النِّسَاءَ الحَدِيث، والله يقولُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب:21) فيلزمنا ألا نصافح النساء اقتداءً به ? ... ، وكونه ? لا يصافح النساء وقت البيعة دليلٌ واضحٌ عَلى أنَّ الرجلَ لا يصافح المرأة، ولا يمس شيء من بدنه شيئاً من بدنها، لأنَّ أخفَ أنواع اللمس المصافحة فإذا امتنع منها ? في الوقت الذي يقتضيها وهو وقت المبايعة دلّ ذلكَ على أنها لا تجوز، وليس لأحد مخالفته ? لأنه هو المشرع لأمته بأقواله وأفعاله وتقريره.
...................
ثم قال:
المقدمة الخامسة:
لم أقف إلى الآن على حَدِيث صحيحٍ صريحٍ في مس النَّبِيّ (امرأةً أجنبية (80)، أو مس امرأة أجنبية النَّبِيّ (-عدا ما ورد في حَدِيث أُمّ حَرَام وسيأتي الكلام على ذلك- بل قالت عائشة: ((وما مست كف رسول الله ? كف امرأة قط)) (81).
قد يشكل على هذا حَدِيث هُشَيْم بن بَشير قَالَ: أخبرنا حُمَيْدٌ الطوِيل قَالَ: حدثنا أنسُ بنُ مَالِك قَالَ: كانَتِ الأمَةُ مِنْ إماءِ أهْلِ المَدِينَةِ لِتَأْخُذُ بِيَدِ رسول الله (فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شاءَتْ (82).
والجوابُ: مِنْ وجهين:
الأوّل: أن دلالة " لتأخذ بيد رسول الله" على المس غير بينة إذ ربما يراد بذلك الإشارة إلى غاية التصرف واللين، قَالَ ابن حَجَر: ((والمقصود من الأخذ باليد لازمه وهو الرفق والانقياد، وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع لذكره المرأة دون الرجل والأمة دون الحرة وحيث عمم بلفظ الإماء أي أمة كانت وبقوله حيث شاءت أي من الأمكنة والتعبير بالأخذ باليد إشارة إلى غاية التصرف حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة)) (83)، وعلى كل حال هذه الدلالة معارضة بما هو أقوى وأصرح مما تقدم ذكره في المقدمة الثالثة.
الثاني: أنّ الحَدِيث نصّ على الإماء، ولا يخفى أنّ الإماء يفارقن الحرائر بأحكام كثيرة -فلا يخلو باب من أبواب الفقه - في الغالب - من ذكر الفروق بين الحرائر والإماء-، فملامسة الأمة أخف من ملامسة الحرائر، وكذلك النظر إليها وغير ذلك من الأحكام، وتبقى الحرائر على الأصل في تحريم المس.
قَالَ ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الصلوات، في الأمة تصلي بغير خمار (2/ 41) حدثنا وكيعُ بنُ الجراح، قَالَ: حدثنا شعبةُ، عن قتادةَ، عن أنس قَالَ: رأى عُمرُ أمةً لنا متقنعة فضربها وَقَالَ: لا تشبهي بالحرائر، وهذا إسنادٌ صحيح (84).
قَالَ شيخُ الإسلامِ: ((غناءُ الإماءِ الذي يسمعه الرجلُ قد كَانَ الصحابة يسمعونه في العرسات كما كانوا ينظرونَ إلى الإماء لعدم الفتنة في رؤيتهن و سماع أصواتهن)) (85).
¥