فقد قال ابن الصلاح:" الصحيح ما اتصل سنده بالعدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة ". ثم أشار إلى أن هذا التعريف على منهج أهل الحديث حين قال: " فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلا ف بين أهل الحديث " 9. وتبعه في ذلك كل من صنف في مصطلح الحديث عموماً، متفقين على أن هذا التعريف إنما هو على منهج المحدثين دون غيرهم من الفقهاء و علماء الأصول.
وذلك لأن الفقهاء و علماء الأصول لم يشترطوا في الصحيح أن يكون الحديث خاليا من أسباب الشذوذ والعلة المتفق عليها عند المحدثين. ويتجلى ذلك بوضوح في مسألة زيادة الثقة، ومسألة ما يتفرد به الثقة من الأحاديث، ومسألة تعارض الوصل والإرسال، وتعارض الوقف والرفع، و مسألتي الشاذ والمنكر، إذ كان موقف الفقهاء و علماء الأصول تجاه هذه المسائل هو قبول ما يرده نقاد الحديث.
ولهذا قال ابن دقيق العيد: ومداره (يعني الصحيح) بمقتضى أصول الفقهاء والأصوليين على صفة عدالة الراوي في الأفعال مع التيقظ، العدالة المشترطة في قبول الشهادة على ما قرر في الفقه، فمن لم يقبل المرسل منهم زاد في ذلك أن يكون مسندا. وزاد أصحاب الحديث أن لا يكون شاذا و لا معللا، وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى مذهب الفقهاء، فإن كثيراً من العلل التي يعلل بها المحدثون الحديث لا تجري على أصول الفقهاء10.
وقال أيضاً في شرح الإلمام: " إن لكل من أئمة الفقه والحديث طريقاً غير طريق الآخر، فإن الذي تقتضيه قواعد الأصول و الفقه أن العمدة في تصحيح الحديث عدالة الراوي و جزمه بالرواية، ونظرهم يميل إلى اعتبار التجويز الذي يمكن معه صدق الراوي و عدم غلطه، فمتى حصل ذلك و جاز ألا يكون غلطا وأمكن الجمع بين روايته ورواية من خالفه بوجه من الوجوه الجائزة لم يترك حديثه. فأما أهل الحديث فإنهم قد يروون الحديث من رواية الثقات العدول ثم تقوم لهم علل تمنعهم عن الحكم بصحته " وقال الصنعاني معقباً عليه: وهو صريح في اختلاف الاصطلاحين في مسمى الصحيح من الحديث كما قررناه " 11.
وقال أبو الحسن بن الحصار الأندلسي (611هـ) " إن للمحدثين أغراضاً في طريقهم احتاطوا فيها وبالغوا في الاحتياط، ولا يلزم الفقهاء اتباعهم على ذلك، كتعليلهم الحديث المرفوع بأنه روي موقوفاً أو مرسلاً، وكطعنهم في الراوي إذا انفرد بالحديث أو بزيادة فيه أو لمخالفته من هو أعدل منه، أو أحفظ. وقد يعلم الفقيه صحة الحديث بموافقة الأصول، أو آية من كتاب الله تعالى، فيحمله ذلك على قبول الحديث، والعمل به، واعتقاد صحته، وإذ لم يكن في سنده كذاب فلا بأس بإطلاق القول بصحته إذا وافق كتاب الله تعالى وسائر أصول الشريعة " 12.
وإن كان في قول أبي الحسن الأندلسي بعض المؤاخذات العلمية التي سأبديها قريباً فإن هذه النصوص أفادتنا عموماً بضرورة التفريق بين الفقهاء و علماء الأصول وبين نقاد الحديث في تنظير قواعد التصحيح و التضعيف وتطبيقاتها، لئلا تكون المفاهيم حولها ملفقة بين مناهجهم المختلفة. ومعلوم أن هذه القواعد إنما تؤخذ عن المحدثين النقاد، دون غيرهم، ويجب التسليم لهم في ذلك، ولذا قال الحافظ ابن حجر:" يتبين عظم موقع كلام المتقدمين، وشدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه " 13
وقال أيضاً:" ... فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله، فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه " 14
وقال ابن كثير:" أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن (أي في جرح الرواة) فينبغي أن يؤخذ مسلما من غير ذكر أسباب، وذلك للعلم بمعرفتهم، و اطلاعهم، واضطلاعهم في هذا الشأن، واتصفوا بالإنصاف والديانة، والخبرة والنصح، لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل أو كونه متروكا أو كذاباً أو نحو ذلك فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفه في مواقفهم، لصدقهم وأمانتهم و نصحهم " 15.
وقال السخاوي: فمتى وجدنا في كلام أحد المتقدمين الحكم به كان معتمدا لما أعطاهم الله من الحفظ الغزير وإن اختلف النقل عنهم عدل إلى الترجيح ا. هـ16
¥