كان من موسى فيه، أمره ثانيًا بأمر آخر أمر اختبار وابتلاء، فلما علم موسى كليم الله صلى الله على نبينا وعليه أنه ملك الموت، وأنه جاءه بالرسالة من عند الله، طابت نفسه بالموت، ولم يستمهل، وقال: الآن.
فلو كانت المرة الأولى عرفه موسى أنه ملك الموت، لاستعمل ما استعمل في المرة الأخرى عند تيقنه وعلمه به" ([37]).
ومن هنا يُعلم أن مجيء ملك الموت كان في صورة يمكن فقء البشر لعينها، هذه الصورة لا تستلزم خروج الملك عن مَلَكِيّته.
وفي هذا المعنى يقول العلامة المعلمي اليماني ـ رحمه الله ـ: الجسد المادي الذي يتمثل به الملك ليس جسده الحقيقي، وليس من لازم تمثله فيه أن يخرج الملك عن ملكيته، ولا أن يخرج ذاك الجسم المادي عن ماديته، ولا أن تكون حقيقة الملك إلى ذاك الجسم كنسبة أو روح الناس إلى أجسامهم، فعلى هذا أو عرض ضرب أو طعن أو قطع لذاك الجسم لم يلزم أن يتألم بها الملك ولا أن تؤثر في جسمه الحقيقي ([38]).
قال القاضي محمد العلوي: إن ملك الموت جاء في صورة يمكن فقء البشر لعينها، والمعهود في مجيء الملك للبشر هو مجيئه له على صورة البشر، كما قال تعالى: ژ??? ژ (مريم: 17)، وكما أفادته النصوص القرآنية التي ذكر فيها مجيء الملائكة لإبراهيم وللوط وداود. وكذا نصوص الأحاديث التي ذكر فيها مجيء جبريل لنبينا r، وبه تبين أن فقأ العين هنا هو على ظاهره، وأنه وقع في الصورة البشرية التي جاء ملك الموت عليها وهي ممكن فيها ذلك إلا في الصورة الملكية الأصلية النورانية البعيدة عن ذلك، إذ لم يعهد مجيء الملائكة لللبشر فيها. أما رؤية نبينا r لجبريل على صورته الأصلية في السماء مرة وبين السماء والأرض أخرى، فهي خارجة عن مجيء الملك الذي الكلام فيه، وبمجموع هذا الذي قررناه هنا وضح انحلال استشكال صك موسى لعين الملك وحصول فقء عين الملك من أثره ([39]).
وختامًا نقول للمشككين: ما المانع أن تقتضي حكمة الله عزوجل أن يتمثل ملك الموت بصورة رجل ويأمره الله أن يدخل على موسى بغته ويقول له مثلاً: سأقبض روحك. وينظر ماذا يصنع؟ لتظهر رغبة موسى في الحياة وكراهيته للموت، فيكون في قص ذلك عبرة لمن بعده.
فعلى هذا فإن موسى لما رأى رجلاً لا يعرفه دخل بغتة وقال ما قال، حمله حب الحياة على الاستعجال بدفعه، ولولا شدة حب الحياة لتأتي وقال: من أنت وما شأنك؟ ونحو ذلك ووقوع الصكة وتأثيرها كان على ذاك الجسد العارض، ولم ينل الملك بأس. فأما قوله في القصة: " فرد الله عليه عينه" فحاصله: أن الله تعالى أعاد تمثيل الملك في ذاك الجسد المادي سليمًا، حتى إذا رآه موسى قد عاد سليمًا مع قرب الوقت عرف لأول وهلة خطأه أول مرة ([40]).
ومن قال: إن الله لم يقتص لملك الموت من موسى، فهذا دليل على جهل قائله، ومن أخبره أن بين الملائكة وبين الآدميين قصاص؟! ومن قال أن ملك الموت طلب القصاص من موسى، فلم يقاصصه الله منه، وقد أخبرنا الله تعالى أن موسى قتل نفسًا، ولم يقاصص الله منه لقتله! ...
أما القول بأن العين التي فقأها موسى u، إنما هي تمثيل وتخييل، لا عينًا حقيقة؛ لأن ما تنتقل الملائكة إليه من الصور ليس على الحقائق، وإنما هو تمثيل وتخييل، فالجواب عنه: أن هذا يقتضي أن كل صورة رآها الأنبياء من الملائكة فإنما هي مجرد تمثيل وتخييل لا حقيقة لها، وهذا باطل، فإن النبي r قد رأى جبريل على صورته التي خلق عليها سادًّا عِظَمُ خلقه ما بين السماء والأرض، ففي الصحيحين من حديث عائشة، أنها سألته عن قوله تعالى: ژھےے??ژ (التكوير: 23). ژڑککککژ (النجم: 13)، فقال: " إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطًا من السماء سادًّا عظم خَلْقِهِ ما بين السماء إلى الأرض" ([41]).
ولهذا قال القرطبي: هذا القول لا يلتفت إليه؛ لظهور فساده، فإنه يؤدي إلى ان ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له، وهو قول باطل بالنصوص المنقولة والأدلة القطعية.
ثم إن هذا القول ـ أيضًا ـ لم يُزل الإشكال؛ لأنه يمكن أن يقال: إذا كان قد علم أنه ملك، وأن ذلكن تخييل، فلماذا يلطمه، ويقابله بهذه المقابلة؟! هذا مما لا يليق بالنبي؟ ([42])
¥