في حين يعد الفقهاء هذا النوع من الاختلاف عللا غير قادحة، نظرا لكون راوي ذلك ثقة أو صدوقا، وأن الزيادة منه مقبولة عندهم إذ كانوا يجوزون عقليا صدور ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم صارفين النظر عما يحيط بتلك الزيادات من ملابسات وقرائن. ولذا فعلى المنصف أن يتأمل: أي منهج يتسم بالدقة المتناهية التي تقتضيها مكانة السنة النبوية، منهج المحدثين النقاد الذي يقوم على تتبع القرائن والملابسات؟ أو منهج الفقهاء و الأصوليين الذي يعتمد على التجويز العقلي؟ 23.
وفي ضوء ما سبق ذكره يمكن لنا القول: من كان منهجه في التصحيح و التضعيف هو النظر في عدالة الراوي واتصال السند فهو على طريقة الفقهاء، وعليه جرى عمل كثير من المتأخرين من أهل الحديث عموما، وهو ظاهر لكل من يتتبع كتب الفقه وأحاديث الأحكام، وكتب التخريجات، وكذلك المعاصرون ينتهجون المنهج نفسه، كما نرى ذلك في كثير من بحوثهم ودراساتهم. غير أنهم يتفاوتون في ذلك بقدر ممارستهم بمنهج المحدثين النقاد.
هذا وقد تبلور التباين المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين في تقعيد قواعد القبول والرد في مناسبات أخرى في علوم الحديث، كمبحث تعارض الوصل والإرسال، وتعارض الوقف والرفع، ومبحث زيادة الثقة، ومبحث الاستخراج، ومبحث الشاذ المنكر.
يقول الحافظ العلائي في صدد بيان هذا التباين:
" فأما إذا كان رجال الإسناد متكافئين في الحفظ أو العدد، أو كان من أسنده أو رفعه دون من أرسله أو وقفه في شئ من ذلك، مع أن كلهم ثقات محتج بهم، فههنا مجال النظر واختلاف أئمة الحديث والفقهاء."
" فالذي يسلكه كثير من أهل الحديث بل غالبهم جعل ذلك علة مانعة من الحكم بصحة الحديث مطلقا، فيرجعون إلى الترجيح لإحدى الروايتين على الأخرى، فمتى اعتضدت إحدى الطريقين بشيء من وجوه الترجيح حكموا لها، وإلا توقفوا عن الحديث وعللوه بذلك، ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر، ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن الذي أكثر من الطرق والروايات، ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة، بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده ".
" وأما أئمة الفقه والأصول، فإنهم جعلوا إسناد الحديث ورفعه كالزيادة في متنه يعني كما تقدم تفصيله عنهم. ويلزم على ذلك قبول الحديث الشاذ كما تقدم " 24.
و قال الحافظ ابن حجر: " وهذا (يعني قبول زيادة الثقة) قول جماعة من أئمة الفقه والأصول، وجرى على هذا الشيخ محي الدين النووي في مصنفاته " 25.
وقال الحافظ العلائي: " فهذا (قبول زيادة الثقة) كلام أئمة الأصول ممن وقفت عليه، وأما أئمة الحديث فالمتقدمون منهم كيحي بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي، ومن بعدهما كالبخاري وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين ومسلم والنسائي والترمذي وأمثالهم، ثم الدار قطني و الخليلي، كل هؤلاء يقتضي تصرفهم في الزيادة قبولا وردا الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند الواحد منهم في كل حديث، ولا يحكمون في المسألة بحكم كلي يعم جميع الأحاديث، وهذا هو الحق والصواب كما سنبينه إن شاء الله تعالى " 26 ثم استثنى العلائي منهم الإمام الحاكم وابن حبان لتساهلهما في التصحيح.
وهذه النصوص كلها واضحة وجلية في التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في مسألة التصحيح والتضعيف وما يلحق بهما من المسائل والضوابط، وأن المتقدمين هم نقاد الحديث، وأن المتأخرين هم الفقهاء وعلماء الكلام والأصول ومن تبعهم في المنهج من أهل الحديث، دون النظر إلى الفاصل الزمني في التفريق.
ولذا أطلق السخاوي بقوله السابق: " ولذا كان الحكم من المتأخرين عسرا جدا، وللنظر فيه مجال، بخلاف الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه كشعبة والقطان وابن مهدي و نحوهم وأصحابهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهويه وطائفة، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، وهكذا إلى زمن الدار قطني والبيهقي، ولم يجئ بعدهم مساو لهم ولا مقارب" 27.
ومن هنا يتجلى وهاء ما ذكره الشيخ عبد الفتاح أبو غدة (رحمة الله عليه) في سبيل دفاعه عن حديث عون بن عبدالله الخزار عن مالك عن الزهري عن نافع عن ابن عمر مرفوعا موضوع ترك رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام، وعن صحته، مع أن الراوي قد انفرد به مخالفا للثابت عن مالك ثم عن الزهري ثم عن نافع ثم عن ابن عمر ثم عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونص بعض النقاد على أنه باطل، وأوضح ذلك الشيخ الألباني رحمة الله عليه.
بيان مواضع أخرى من كتب المصطلح استخدم فيها العلماء مصطلحي المتقدمين والمتأخرين:
كتب المصطلح تزخر بلفظي المتقدمين والمتأخرين في كثير من المسائل، ومنها طرق التحمل والأداء، والجرح والتعديل، حيث كان هذان الموضوعان محل عناية لدى المتأخرين، على الرغم من اختلاف تخصصاتهم العلمية وتوجهاتهم الفكرية، إذ الأولى تشكل نظم التعليم التي من شأنها أن تطور وفق مقتضيات العصر، ويتأثر بذلك جميع العلوم. وأما الثاني فدخل فيها الفقهاء والأصوليون من باب مسألة الشهادة، وأطنبوا فيها حتى تعرضت لخلط الآراء القديمة و الجديدة، ومعلوم أن معظم المؤلفين في كتب المصطلح هم أصحاب تخصص فقهي أو أصولي أو تاريخي مع وجود تفاوت كبير فيما بينهم من حيث الفهم والممارسة والاهتمام.
استعمال مصطلحي " المتقدمون" و " المتأخرون " أمر شائع في كتب المصطلح:
وأسرد هنا ـ على سبيل المثال دون استيعاب ـ تلك المواضع التي ورد فيها مصطلحا "المتقدمين" و " المتأخرين" من غير ترتيب موضوعي لها، أو توضيح ملابسات تلك المسائل التي تعرضت للتباين المنهجي بينهم , إذ الغاية هي مجرد عرض لهذه المواضع ليقف القارئ على أنني لم أحدث شيئا جديدا في قضية التفريق بين المتقدمين والمتأخرين. وأنا على يقين أن القارئ على علم بذلك.
[يتبع]
¥