وهذه – أيضاً – صورة مشرقة لمعاملة أهل السنّة لأهل البدع تتضح من خلال ترجمة المحدث الإمام أحمد بن عون الله بن حدير أبي جعفر الأندلسي القرطبي (ت:378هـ)، فقد قال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مفرج: "كان أبو جعفر أحمد بن عون الله محتسباً على أهل البدع غليظاً عليهم مذّلاً لهم طالباً لمساوئهم مسارعاً في مضارّهم شديد الوطأة عليهم مشرّداً لهم إذا تمكن منهم غير مبقٍ عليهم، وكان كل من كان منهم خافياً منه على نفسهم توقياً، لا يداهن أحداً منهم على حال ولا يسالمه، وإن عثر على منكر وشهد عليه عنده بانحرافٍ عن السنّة نابذه وفضحه وأعلن بذكره والبراءة منه وعيّره بذكر السوء في المحافل وأغرى به حتى يهلكه أو ينزع عن قبيح مذهبه و سوء معتقده ولم يزل دؤوباً على هذا جاهداً فيه ابتغاء وجه الله إلى أنلقي الله تعالى ". [تاريخ دمشق (5/ 118)]
وكذلك الإمام أسد بن الفرات – رحمه الله -، فقد جاء في رسالة أسد ابن موسى المعروف بأسد السنّة التي كتبها لأسد بن الفرات فقال:
" اعلم – أي أخي – أن ما حملني على الكتابة إليك ما ذكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس (4)،وحسن حالك مما أظهرت من السنّة، وعيبك لأهل البدعة، وكثرة ذكرك لهم، وطعنك عليهم، فقمعهم الله بك، وشدّ بك ظهر أهل السنّة، وقواك عليهم بإظهار عيبهم، والطعن عليهم، فأذلهم الله بذلك، وصاروا ببدعتهم مستترين. فأبشر – أي أخي – بثواب ذلك، واعتد به أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج و الجهاد. وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله وإحياء سنّة رسوله … وذُكر أيضاً أنّ لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليّاً لله يذبّ عنها، وينطق بعلاماتها … فاغتنم ذلك، وادع إلى السنّة حتى يكون لك في ذلك أُلفة، وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث، فيكونون أئمة بعدك، فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة كما جاء الأثر، فاعمل على بصيرة ونيّة وحسبة، فيرد الله بك المبتدع المفتون الزائغ الحائر، فتكون خلفاً من نبيك - صلى الله عليه وسلم-، فإنك لن تلقى الله بعمل يشبهه. وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ أو جليس أو صاحب … ". ا [لبدع والنهي عنها لابن وضاح (ص: 28)]
وأختم بهذه النصيحة للإمام البربهاري – رحمه الله – قال:
فاحذر ثم احذر أهل زمانك خاصة، وانظر من تجالس، وممن تسمع، ومن تصحب، فإن الخلق كأنهم في ردة؛ إلا من عصم الله منهم!. [شرح السنة:116]
وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
1 /قال العلامة الشيخ حمود التويجري –رحمه الله وغفر له- عن هذه الرواية وتطبيقها على أهل البدع كجماعة التبليغ: " وهذه الرواية عن الإمام أحمد ينبغي تطبيقها على الذين يمدحون التبليغيين ويجادلون عنهم بالباطل، فمن كان منهم عالماً بأن التبليغيين من أهل البدع والضلالات والجهالات، وهو مع هذا يمدحهم ويجادل عنهم؛ فإنّه يلحق بهم، ويعامل بما يعاملون به، من البغض والهجر والتجنُّب، ومن كان جاهلاً بهم، فإنه ينبغي إعلامه بأنهم من أهل البدع والضلالات والجهالات، فإن لم يترك مدحهم والمجادلة عنهم بعد العلم بهم، فإنه يُلحق بهم ويُعامل بما يُعاملون به." [القول البليغ (ص: 230 - 231)]
2 / ونرى ذلك في الفرق المعاصرة كـ (الأخوان وفصائلها والتبليغ –التي حكم عليهم إمام العصر: ابن باز؛ بأنهم من الثنتين والسبعين فرقه الضالة-) وغيرهم من الفرق، وكأنهم مختلفون فيما بينهم ولكنهم مجتمعون في السيف على حكام المسلمين ومعاداتهم أهل السنة.
قال الإمام البربهاري: واعلم أن الأهواء كلها رديّة، كلها تدعوا إلى السيف. [شرح السنة: 122]
3 / كان السلف يعدّون الطعن على أهل السنّة والذابين عنها؛ من علامات أهل البدع والضلال، بل قد يعدّون الرّجل من أهل البدع بمجرد طعنه عليهم، قال أبو زرعة: إذا رأيت الكوفي يطعن على سفيان الثوري وزائدة: فلا تشك أنّه رافضي، وإذا رأيت الشامي يطعن على مكحول والأوزاعي: فلا تشك أنّه ناصبي، وإذا رأيت الخراساني يطعن على عبد الله بن المبارك: فلا تشك أنّه مرجئ، واعلم أنّهذه الطوائف كلها مجمعة على بغض أحمد بن حنبل؛ لأنّه ما من أحد إلا وفيقلبه منه سهم لا بُرْء له [طبقات الحنابلة (1/ 199)].
وقال أبو حاتم -أيضاً-: ((علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر)) [للالكائي (1/ 179)]. وقال الإمام أبو عثمان الصابوني: ((وعلامات البدع على أهلها بادية ظاهرة، وأظهر آياتهم وعلاماتهم: شدة معاداتهم لحملة أخبار النبيصلى الله عليه وسلمو احتقارهم واستخفافهم بهم)) [عقيدة السلف (101)]. قال السفاريني: ((ولسنا بصدد ذكر مناقب أهل الحديث فإنَّ مناقبهم شهيرة ومآثرهم كثيرة وفضائلهم غزيرة، فمن انتقصهم فهو خسيس ناقص، ومن أبغضهم فهو من حزب إبليس ناكص)) [لوائح الأنوار (2/ 355)].
4 / تنبه - أخي في الله - إلى أنه جعل ذكر معائب أهل البدع والطعن عليهم وكثرة ذكر ذلك من الإنصاف للناس، ولم يجعل الإنصاف ذكر الحسنات إلى جانب السيئات كمايقوله أهل منهج الموازنات، ألا ساء ما يحكمون.