ولو لم يكن إلا تتبع آراء المتقدمين وبيان اختلافهم وإيرادها في موضع التعليق لكان وحده غاية، فإن أقوال المتقدمين ثمينة لا ينبغي التفريط بها وإهمالها بحجة الاكتفاء باتباع القواعد، فمن أمثلة ذلك أن المصنف الترمذي حسن حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع إلا في أول مرة، فكان لابد من الإشارة إلى قول ابن المبارك بعدم ثبوت حديث ابن مسعود هذا، وقول أبي حاتم " "هذا خطأ، يقال: وهم الثوري"، وقول أبي داود: "ليس هو بصحيح على هذا اللفظ" ().
ثانياً: ثانياً: إعلال جهابذة المتقدمين لحديث ما، لا ينفعه تصحيح المتآخرين:
واستناداً إلى ما تقدم، ومع إيماننا بأن تصحيح الأحاديث وتضعيفها من الأمور الاجتهادية التي تتباين فيها القدرات العلمية والذهنية والمؤثرات المحيطة والاختلاف في تقويم الرواة، فإن اجتماع أكثر من واحد من الجهابذة على إعلال حديث ما ينبغي التنبه إليه وعدم تجاوزه بحيثيات بنيت قواعدها بعدهم.
ولا بد لي هنا من بعض أمثلة دالة مبينة لهذا الأمر، فقد روى الترمذي () حديث عيسى بن يونس، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سرين، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقضي"، ثم قال بعده: "وفي الباب عن أبي الدرداء، وثوبان، وفضالة بن عبيد. حديث أبي هريرة حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث عيسى بن يونس. وقال محمد: لا أراه محفوظاً. وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح إسناده".
فهذا الحديث صححه الحاكم، ومن المحدثين: العلامة الألبان والعلامة شعيب الأرنؤوط، وكذلك فعلت في تعليقي على سنن ابن ماجه قبل نستين (1676). والحديث معلول، وإن كان ظاهره الصحة إذا رجاله ثقات رجال الصحيحين، فقد قال الإمام أحمد: "ليس من ذا شيء" يعني: أنه غير محفوظ، وإنما يروي هذا عن عبد الله بن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة رفعه، وخالفه يحيى بن صالح، قال: حدثنا معاوية، قال: حدثنا يحيى، عن عمر بن حكم بن ثوبان سمع أبا هريرة، وقال: إذا قال أحدكم فلا يفطر فإنما يخرج ولا يولج" () فكان يرى الصحيح فيه الوقف. وقال النسائي: "أوقفه عطاء على أبي هريرة ".
وقال منها عن أحمد: "حدث بن عيسى وليس هو في كتابه، غلط فيه، وليس هو من حديثه". وقال الدرامي: "قال عيسى – يعني ابن يونس – زعم أهل البصرة أن هشام أوهم فيه، فموضع الخلاف هاهنا".
قلت: فالوهم من هشام إذن، فإن عيسى بن يونس لم ينفرد به كما ذكر الترمذي، فقد تابعه حفص بن غياث عند ابن ماجة، وقال أبو داود: "رواه أيضاً حفص بن غياث عن هشام مثله".
وقد أخرجه النسائي من طريق عبد الله بن المبارك، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن أبي هريرة موقوفاً، وإسناده صحيح. وأخرجه البخاري في تاريخه الكبير موقوفاً كما تقدم أيضاً، وإسناده حسن.
فحديث يعله الأئمة: أحمد، والبخاري، والدرامي، والنسائي، وغيرهم من الجهابذة لا ينفعه تصحيح الحاكم وغيره ().
ومن أمثلة ذلك قول المصنف عقب الحديث (1365): "وقد روى عن ابن عمر، وابن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من ملك ذا رحم محرم فهو حر". رواه ضمرة بن ربيعة عن الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتابع ضمرة على هذا الحديث، وهو حديث خطأ عند أهل الحديث".
وهذا الحديث قد استنكره من العلماء الفهماء الجهابذة المتقدمين إضافة إلى الترمذي: النسائي فقال: "حديث منكر" ()، والإمام المبجل أحمد بن حنبل، فقد قال أبو زرعة الدمشقي: "قلت لأحمد: فإن ضمرة يحدث عن الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: من ملك ذا رحم محرم فهو حر، فأنكره ورده رداً شديداً" ()، وقال البيهقي: "المحفوظ بهذا الإسناد حديث: نهى عن بيع الولاء وعن هبته ".
¥