قال ابن حجر: (ورواه أبو قرة عن مالك بواو العطف فجعله عنهما، وتابعه مصعب الزبيري وشذا في ذلك عن أصحاب مالك.
والظاهر أن عبيد الله حفظه لكونه لم يشك فيه ولكونه من رواية خاله وجده؛ والله أعلم).
ثم قال ابن حجر:
(قوله (شماله ما تنفق يمينه) هكذا وقع في معظم الروايات في هذا الحديث في البخاري وغيره، ووقع في صحيح مسلم مقلوبا (حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) وهو نوع من أنواع علوم الحديث أغفله ابن الصلاح وإن كان أفرد نوع المقلوب، لكنه قصره على ما يقع في الإسناد ونبه عليه شيخنا [يعني البلقيني] في (محاسن الاصطلاح) ومثل له بحديث (إن بن أم مكتوم يؤذن بليل) وقد قدمنا الكلام عليه في كتاب الأذان.
وقال شيخنا: ينبغي أن يسمى هذا النوع المعكوس انتهى؛ والأولى تسميته مقلوباً فيكون المقلوب تارة في الإسناد وتارة في المتن كما قالوه في المدرج سواء وقد سماه بعض من تقدم مقلوباً.
قال عياض: هكذا في جميع النسخ التي وصلت إلينا من صحيح مسلم وهو مقلوب والصواب الأول وهو وجه الكلام لأن السنة المعهودة في الصدقة إعطاؤها باليمين، وقد ترجم عليه البخاري في الزكاة باب الصدقة باليمين.
قال: ويشبه أن يكون الوهم فيه ممن دون مسلم بدليل قوله في رواية مالك لما أوردها عقب رواية عبيد الله بن عمر فقال: (بمثل حديث عبيد الله)، فلو كانت بينهما مخالفة لبينها كما نبه على الزيادة في قوله (ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه) انتهى [يعني قول عياض].
وليس الوهم فيه ممن دون مسلم ولا منه بل هو من شيخه أو من شيخ شيخه يحيى القطان فإن مسلما أخرجه عن زهير بن حرب وابن نمير كلاهما عن يحيى، وأشعر سياقه بأن اللفظ لزهير.
[قلت: لم يخرجه مسلم من طريق ابن نمير وإنما أخرجه من طريق محمد بن المثنى].
وكذا أخرجه أبو يعلى في مسنده عن زهير.
وأخرجه الجوزقي في مستخرجه عن أبي حامد بن الشرقي عن عبد الرحمن بن بشر بن الحكم عن يحيى القطان كذلك وعقبه بأن قال: سمعت أبا حامد بن الشرقي يقول يحيى القطان عندنا واهم في هذا إنما هو (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه). انتهى كلام ابن حجر.
قلت: قال ابن خزيمة بعد إخراجه الحديث في صحيحه (358) وفيه هذا الوهم:
"هذه اللفظة – لا تعلم يمينه ما تنفق شماله- قد خولف فيها يحيى بن سعيد فقال من روى هذا الخبر غير يحيى: لا تعلم شماله ماتنفق يمينه".
ثم قال ابن حجر: (والجزم بكون يحيى هو الواهم فيه نظر لأن الإمام أحمد قد رواه عنه على الصواب.
وكذلك [أي على الصواب] أخرجه البخاري هنا عن محمد بن بشار؛ وفي الزكاة عن مسدد.
وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق يعقوب الدورقي وحفص بن عمرو [الربالي].
كلهم عن يحيى). انتهى.
قلت: (ولكن وقع في رواية البيهقي في السنن الكبرى (8/ 162) القلب المذكور وهي من طريق محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، ولكن يحتمل أن الوهم ممن دونهما أو أن اللفظ لمحمد بن المثنى وحده.
فقد قال البيهقي: أخبرنا أبو صالح بن أبي طاهر العنبري أنبأ [كذا ولعل الصواب: ابنا] جدي يحيى بن منصور ثنا أحمد بن سلمة ثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا: ثنا يحيى – يعنيان ابن سعيد – عن عبيد الله حدثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة فذكره مرفوعاً وفيه (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما ينفق بشماله)، ثم قال البيهقي:
"رواه البخاري في الصحيح عن بندار ورواه مسلم عن محمد بن المثنى. وسائر الرواة عن يحيى القطان قالوا فيه: لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ". انتهى.
فإن أراد – وهو ظاهر سياقه - أن البخاري رواه عن بندار مقلوباً فقد وهم).
قال ابن حجر عقب ما تقدم من كلامه: وكأن أبا حامد لما رأى عبد الرحمن قد تابع زهيراً ترجح عنده أن الوهم من يحيى، وهو محتمل بأن يكون منه لمّا حدث به هذين خاصة، مع احتمال أن يكون الوهم منهما، تواردا عليه.
وقد تكلف بعض المتأخرين توجيه هذه الرواية المقلوبة [أي أن هذا المتأخر قال بأن كلا الروايتين محفوظتان، ثم تكلف توجيه الرواية المقلوبة]؛ وليس بجيد لأن المخرج متحد ولم يختلف فيه على عبيد الله بن عمر شيخ يحيى فيه ولا على شيخه خبيب ولا على مالك رفيق عبيد الله بن عمر فيه.
وأما استدلال عياض على أن الوهم فيه ممن دون مسلم بقوله في رواية مالك (مثل عبيد الله) فقد عكسه غيره فواخذ مسلماً بقوله (مثل عبيد الله) لكونهما ليستا متساويتين.
[قلت: يعني أن القاضي عياضاً خمن متن الرواية بمقتضى اللفظة المذكورة لمسلم، أعني قوله (مثل عبيد الله)؛ وأما من خالف عياضاً فحكم على لفظة مسلم هذه بمقتضى الرواية، فرأى أنها لفظة غير دقيقة].
ثم اعتذر الحافظ عن مسلم فقال: (والذي يظهر أن مسلماً لا يقصر لفظ المثل على المساوي في جميع اللفظ والترتيب، بل هو في المعظم إذا تساويا في المعنى، والمعنى المقصود من هذا الموضع إنما هو إخفاء الصدقة؛ والله أعلم). انتهى.
قلت: خلاصة الكلام على الاختلاف الواقع في حديث عبيد الله بن عمر أن يقال:
لم يختلف الثقات على عبيد الله في شيء يستحق أن يذكر هنا سوى شيء واحد وهو أنه قد وقع في بعض الروايات عن يحيى بن سعيد قلب في المتن ففيه (حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله).
رواه عنه مقلوباً زهير بن حرب عند مسلم، وعبد الرحمن بن بشر عند الجوزقي، ومحمد بن بشار عند ابن خزيمة، وأما ما في سنن البيهقي من ذلك فالراجح عندي أنه غير سالم من وهم.
ولقد اختلف العلماء في تعيين الواهم أهو يحيى أم أولئك الرواة عنه؟ ومهما كان الأمر فإن الوهم محصور في يحيى والرواة عنه ولا ينزل بحال إلى مسلم أو رواة كتابه، كما أنه لا يرتفع إلى من بين يحيى وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
¥