تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وتأمّل معي قوله e : ( سدّدوا وقاربوا وأبشروا) (2) فإنّ فيه معنىً لطيفاً يقطع الطّمع على المؤمن أن يبلغ حقيقة التّديّن والقيام بحقوق الله تعالى، بل المطالبة أن يسدّد العبد وأن يقارب فكأنّ الإصابة غير ممكنة، ولكن كلّما كان سهم العبد أقرب إلى الإصابة فهو أقرب للسّلامة، وهذا هو معنى ما ذكرناه فلله الحمد.

فإذا وطّن العبد نفسه على التّوبة من الذّنب كلّما وقع فيه سكنت نفسه عن التّطلّع للوقوع في الخطأ.

أو على الأقل أضعفت أثر الذّنب في النّفس، فالتّوبة لا يقوم بوجهها شيء من الذّنوب والخطايا بالغاً ما بلغ، إذا صدق العبد فيها، وذاق قلبه حرقة النّدم وألم الحسرة من زلّة الذّنب.

وإذا عرف ربّك منك تكرار التّوبة وتعاهدها فلا أثر لذنبك بعد ذلك أبداً.

وإذا عرف إبليس منك كثرة التّوبة وتعاهدها قنط وأيس منك.

فأهلِك إبليس بتعاهد التّوبة في كلّ وقت وإن كثرت، فإنّ الله لا يملّ منها كما يملّ ابن آدم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله e :

( أنّ رجلاً أذنب ذنباً فقال: أي ربّ أذنبت ذنباً فاغفر لي،فقال: عبدي أذنب ذنباً فعلم أنّ له ربّاً يغفر الذّنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثمّ أذنب ذنباً آخر، فقال: ربّ إنّي عملت ذنباً فاغفر لي، فقال: علم عبدي أنّ له ربّاً يغفر الذّنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي، ثمّ عمل ذنباً آخر فقال: ربّ إنّي عملت ذنباً آخر فاغفر لي، فقال الله تبارك وتعالى: علم عبدي أنّ له ربّاً يغفر الذّنب ويأخذ به، أشهدكم أنّي قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء) (3).

قال ابن القيّم رحمه الله تعالى: (شرط بعض النّاس عدم معاودة الذّنب، وقال: متى عاد إليه تبيّنّا أنّ التّوبة كانت باطلة غير صحيحة.

والأكثرون على أنّ ذلك ليس بشرط وإنّما صحّة التّوبة موقوفة على الإقلاع عن الذّنب والنّدم عليه والعزم الجازم على ترك معاودته) (4).

وفي المستدرك أنّ النّبيّ e جاءه رجل فقال:

(يا رسول الله أحدنا يذنب، قال: يُكتب عليه، قال: ثمّ يستغفر منه، قال: يُغفر له ويُتاب عليه، قال: فيعود فيذنب، قال: يُكتب عليه، قال: ثمّ يستغفر منه ويتوب، قال: يُغفر له ويُتاب عليه،ولا يملّ الله حتّى تملّوا) (5).

وعن عليّ قال: (خياركم كلّ مفتّن توّاب، قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: حتّى متى؟ قال: حتّى يكون الشّيطان هو المحسور.

وقيل للحسن: ألا يستحي أحدنا من ربّه يستغفر من ذنوبه ثمّ يعود ثمّ يستغفر ثمّ يعود، فقال: ودّ الشّيطان لو ظفر منكم بهذه، فلا تملّوا من الاستغفار) (6).

كما أنّ كثرة التّوبة يزيل أثر الذّنب في الدّنيا والآخرة، وهو ارتباط وثيق بين الله وبين العبد امتدح الله به نبيّ الله إبراهيم فقال:

} نعم العبد إنّه أوّاب {[ص: 44].

فليس من شرط الولاية السّلامة من الذّنوب، ولكن عدم الإصرار عليها والتّوبة منها، كما قال تعالى:

} وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم وجنّة عرضها السّماوات والأرض أُعدّت للمتّقين الّذين ينفقون في السّرّاء والضّرّاء والكاظمين الغيظ والعافين عن النّاس والله يحبّ المحسنين والّذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذّنوب إلاّ الله ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون {[آل عمران: 135]، ولا أصرح من هذه الآية على أنّ الرّجل قد يكون من المتّقين بل والمحسنين ومع ذلك فقد يقع منه الذّنب بل الفاحشة ولا يمنع ذلك من بلوغه مرتبة المتّقين أهل الجنّة، بشرط أنّه إذا فعل الفاحشة تذكّر وأقلع وتاب، فهو إذاً لا يصرّ على المعصية مع أنّه قد يقع فيها المرّة بعد المرّة لكنّه يتوب منها أيضاً كلّ ما وقع فيها.

قال ابن رجب: (وظاهر النّصوص تدلّ على أنّ من تاب إلى الله توبة نصوحاً واجتمعت شروط التّوبة في حقّه فإنّه يُقطع بقبول الله توبته، كما يُقطع بقبول إسلام الكافر إذا أسلم إسلاماً صحيحاً وهذا قول الجمهور، وكلام ابن عبدالبر يدلّ على أنّه إجماع) (7).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير